في ذكرى ميلاد أحمد شوقي الـ151.. أمير الشعراء العرب لم يكن عربيا
أحمد شوقي يتوج أميرا للشعر العربي بعد سنوات من ميلاده، وبمبايعة من رفاق تجربته ومن منافسيه في مصر وخارجها
لا أحد بإمكانه أن يصدق أن أمير شعراء العرب في العصر الحديث لم يكن من أصل عربي، فالشاعر أحمد شوقي، الذي تحل اليوم ذكرى ميلاده الـ151، لم يكن عربيا، وهذه ليست المفارقة الوحيدة في مسيرته، لأن من انتقدوا هذه المسيرة اتهموه بأنه شاعر القصر، في حين تشير الوقائع إلى أنه ولد في منطقة شعبية مجاورة لقصر عابدين.
ولد شوقي بشارع الحنفي بالقاهرة في 20 رجب 1287 هـ، الموافق 16 أكتوبر/تشرين الأول 1868، لأب شركسي وأم يونانية تركية، وترجح مصادر أخرى أن أباه كردي وأمه ذات أصول تركية وشركسية، وربما كانت جدته لأبيه هي الشركسية وجدته لأمه يونانية.
ومع ذلك شاء له القدر أن يتوج جهود مدرسة البعث والإحياء في الشعر العربي التي بدأت مع محمود سامي البارودي منتصف القرن الـ19، ويصبح أميرا للشعر العربي بعد سنوات من ميلاده، وبمبايعة من رفاق تجربته ومن منافسيه في مصر وخارجها.
ولم يكن للقصر الذي عاش فيه أي دور في ذلك، لأن هذه البيعة كانت "بيعة فنية" وليست سياسية، فالمواقف السياسية في مسيرة شوقي كانت تعبيرا أصيلا عن ثقافة وتقاليد العصر الذي عاش فيه، حيث لم تكن الهوية المصرية أو العربية قد تبلورت.
ونظر مثقفو السنوات الأولى في القرن الـ20 للدولة العثمانية كتعبير عن فكرة الخلافة الإسلامية، وكان تبني قضاياها هو جزء من الاعتقاد بعدم جواز الخروج عن خليفة المسلمين وانكسرت هذه الفكرة مع نمو الوعي القومي مع ثورة 1919 في مصر، وما تبعها من تغييرات شملت سقوط الخلافة العثمانية في تركيا عام 1924.
عاش شوقي أغلب حياته في رغد القصور، فجدته لأمه كانت وصيفة في قصر الخديو إسماعيل، فربت حفيدها وفقا لتقاليد الأسرة العلوية التي كانت تحكم مصر.
وفي الرابعة من عمره التحق بكُتّاب لحفظ القرآن الكريم وتعلّم القراءة والكتابة كما التحق بمدرسة ابتدائية عمومية هي مدرسة المبتديان الابتدائية القريبة من دار الهلال، ونظرا لاجتهاده تم إعفاؤه من المصروفات الدراسية فواصل التفوق وأبدى ولعا بدراسة الشعر العربي والتعمق في اكتشاف رموزه.
والتحق بمدرسة الحقوق سنة "1303هـ/1885م"، وانتسب إلى قسم الترجمة وأجاد الفرنسية إجادة أهلها وقرأ من خلالها أشعار موليير ثم سافر إلى فرنسا مبعوثا على نفقة الخديو توفيق.
وبعد الاحتلال الإنجليزي لمصر وتولي الخديو عباس حلمي الثاني عرش مصر ارتبط شوقي بالجمعيات الوطنية التي مولها الخديو لدعم مساعيه في إخراج الاحتلال، واشترك شوقي مع زملاء البعثة في تكوين "جمعية التقدم المصري" وصادق الزعيم الشاب مصطفى كامل الذي برز نشاطه السياسي في فرنسا وكان قريبا من الخديو ومعبرا كذلك عن فكرة الارتباط بالدولة العثمانية.
ولعل هذا يفسر وجود أشعار كثيرة لشوقي مدح فيها الخديو عباس ويفسر كذلك إصرار الاحتلال بعد سنوات على نفيه لإسبانيا 1915.
وعلى الصعيد الفني كانت فترة العيش في أوروبا أقرب ما تكون معملا اختبر فيه شوقي كل معرفته بالشعر العربي ومساره واكتشف في الوقت نفسه المخيلة الخصبة للشعراء الأوروبيين وقت أن كانت فرنسا هي "فاترينة العالم" التي تعرض كل جديد في الفن والآداب، فيما أشعلت إسبانيا ومناطقها الأندلسية قلبه بالحنين للثقافة العربية، ولعب لأول مرة لعبته في معارضة شعراء الأندلس الكبار أمثال ابن زيدون والحصري القيرواني وكتب في الأغراض الشعرية التي كتبوا فيها وفي مقدمتها الغزل والبكاء على الأطلال.
ومع تغيير الأوضاع في مصر عقب إعلان الحماية البريطانية على مصر وخلع السلطان حسين كامل استشعر شوقي مسؤولية أخرى في التعبير عن شوق المصريين للحرية، فتجاوز ارتباطه بالقصر الملكي، لكن لم يحظَ بلقب شاعر الشعب الذي بلغه حافظ إبراهيم، لكنهما تشاركا معا في التعبير عن الوطنية المصرية في صعودها باتجاه الثورة.
وحين عاد شوقي إلى القاهرة سنة 1920، كانت شعبية سعد زغلول قد تبلورت وأصبح في مكانة أكبر بكثير من مكانة الملك فؤاد في نفوس المصريين.
في العام الذي توفي فيه سعد باشا زغلول، وهو عام 1927، بايع الشعراء العرب شوقي أميرا للشعر العربي، وميزة هذه المبايعة الشعبية أنها أنصفت دوره في استعادة ماضي القصيدة العربية التي عرضتها سنوات الاحتلال العثماني لكثير من التراجع.
وجاء شوقي بما قدمه للشعر العربي ليؤكد الجدارة الفنية للغة العربية وقدرتها على الابتكار والتخييل لكن دون أن يمتد هذا التجديد لشكل القصيدة الشعرية أو أغراضها، لذلك يرى النقاد أنه بلغ قمة النموذج "الكلاسيكي" بديوانه الشوقيات الذي شمل أغراض الشعر كافة من مديح ورثاء والحماسة وغيرها من الأغراض.
وفي حفل المبايعة قال حافظ إبراهيم مخاطبا شوقي:
أمير القوافي قد أتيتُ مبايعا.. وهذه وفود الشرق قد بايعت معي
وكان من ضمن الشعراء المبايعين خليل مطران، حافظ إبراهيم، أمين نخلة، وشبلي ملاط، وعندما أنهى حافظ قصيدة المبايعة لم يتمالك "شوقي" نفسه فقام واحتضن "حافظ" وقبله، وكان موقفا مؤثرا انحدرت فيه دموع الشاعرين الكبيرين.
وبالإضافة إلى الشعر كان لشوقي آثار نثرية كتبها في مطلع حياته الأدبية، مثل: "عذراء الهند"، ورواية "لادياس"، و"ورقة الآس"، و"أسواق الذهب"، وقد حاكى فيه كتاب "أطواق الذهب" للزمخشري.
ويبدو أن المغامرة الرئيسية بخلاف استعادة الماضي كانت مرتبطة باكتشاف إمكانيات المسرح الشعري فقد تعلم في فرنسا أن الشعر أصبح في مكان آخر هو المسرح وتفرغ كليا في سنواته الأخيرة لإدخال المسرح الشعري إلى الثقافة العربية التي كانت قد عرفت أشكالا مختلفة من المسرح مع يعقوب صنوع ومارون النقاش وخلال سنوات الحرب العالمية الأولى وما بعدها.
وأنتج شوقي مسرحياته الشعرية الشهيرة "مصرع كليوباترا وقمبيز ومجنون ليلى وعلي بك الكبير والست هدى"، وعند موته في عام 1932 كانت مجلة "أبوللو" تسعى لبلورة مشروع شعري آخر قائم على تعدد الأصوات الشعرية ولا يقوم على نموذج الشاعر الفرد الذي عبر عنه شوقي بامتياز.
ووصف الشاعر كامل الشناوي المبايعة بأنها "تمت في جو مشحون بالحب والبغضاء، والرضا والغضب". وفرح أحمد شوقي بهذه المبايعة، فمن عيوبه أنه كان مولعا بالقشور، يحب الثناء ويخاف من النقد، ويستهويه إطراء شعره، وتلقيبه بأمير الشعراء، ومناداته "يا باشا"، وهي عيوب بيضاء، قد تنال منه كإنسان، ولكنها لن تنال منه كشاعر عظيم عبقري.