لطالما تغنّى العالم العربي بشعارات حرية الرأي والتعبير، وصدّع رؤوسنا بمقولات عن حاجة الشعوب إلى فضاء مفتوح للكلمة والموقف والرأي الآخر. لكن ما أن أُتيحت هذه المنصات، حتى تكشفت المأساة: المشكلة لم تكن في غياب الحرية، بل في غياب من يستحقها.
تحوّلت مواقع التواصل إلى ساحة عُريّ فكري، وانكشفت أعماق من الإسفاف، وضحالة في التفكير، وفراغ ثقافي مخجل. وفوق كل هذا، وجدنا أنفسنا أمام جحافل بشرية مستعدة لبيع ضمائرها مقابل حفنة من الإعجابات أو فرصة للانتماء إلى قطيع إلكتروني تقوده غرف سوداء.
ما يُطلق عليه مجازًا "الذباب الإلكتروني" ليس مجرد حسابات مزعجة، بل هو أخطر ما أفرزته العقلية السياسية والأيديولوجية في منطقتنا: جيوش منظمة، تموَّل وتُدار عن بعد، هدفها تفتيت المجتمعات، ضرب الرموز، اغتيال الشخصيات معنوياً، وتزييف الوعي الجماعي.
إنها ليست ظاهرة اجتماعية عفوية، بل مشروع سياسي ممنهج. تقف خلفه أجهزة، وتنظّمه جماعات، ويُحرّكه خطاب واحد: كل من يختلف معنا، يجب تشويهه، سحقه، وسحله معنويًا، هكذا نرى على الدوام الحملات نفسها تتكرّر: صحفي يتجرأ على قول رأي مستقل؟ تُطلق عليه الكلاب الإلكترونية لتنهشه. مثقف يدعو للسلام أو التعايش؟ يصبح خائنًا. شخصية عامة تعارض الاستبداد أو التطرف؟ تُتهم بالعمالة أو الردة.
ويا للمفارقة: هؤلاء الذين يدّعون الغيرة على الدين، أو الوطنية، أو القومية، لا يملكون في الحقيقة إلا لغة السبّ، التحقير، وتفريغ الأوطان من عقلها النقدي، لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي، مع استثناءات نادرة، مقابر جماعية للأخلاق، ومنصات مفتوحة لبثّ السموم. لم تعد مساحة للنقاش، بل تحوّلت إلى حقول ألغام. تغريدة قد تُكلّف صاحبها كرامته، مقاله قد يجرّ عليه جيشًا من الشتّامين.
والأدهى من ذلك، أن المستخدم العربي أصبح هو نفسه جزءًا من هذه المنظومة. من دون وعي، يُعاد تدويره كأداة. يشارك دون تحقق. يهاجم دون تفكير. يسحل دون أدنى معرفة بمن يُهاجمه. لقد صرنا شعوبًا مستهلكة للكراهية، مُعاد تدويرها ضد بعضها البعض.
وهنا يجب أن نكون واضحين: الذباب الإلكتروني ليس مشكلة فنية، بل جريمة سياسية وأخلاقية وثقافية. وما لم يتم مواجهته بمشروع مضاد، إعلامي وتربوي وقانوني، فإن المجتمعات ستنزلق أكثر نحو الفوضى المعنوية، وستبقى النخب الحقيقية مهددة، إما بالإسكات أو بالانسحاب.
ولا يمكن تجاهل البعد الأيديولوجي في الظاهرة. فجماعات مثل الإخوان المسلمين، والمليشيات الطائفية، والأنظمة القمعية، أدركت باكرًا أن السيطرة على المنصات الرقمية تعني التحكم في الوعي. فأسّست جيوشًا إلكترونية، درّبتها على لغة واحدة: التخوين والتشويه والتضليل.
هذه الجماعات لا تبحث عن الحقيقة، بل عن السيطرة. لا تؤمن بالحوار، بل بالتحريض. لا تطرح رأيًا، بل تُطلق حُكمًا. لذلك، فإن من يواجه هذا الذباب لا يواجه مجرد سباب، بل يواجه ماكينة منظمة تهدف إلى سحقه نفسيًا واجتماعيًا.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط مواجهة الذباب، بل كشف البنية التي تُنتجه: أنظمة بلا أخلاق، جماعات بلا مشروع، أفراد بلا وعي. لا يمكن الحديث عن تنوير أو نهضة في بيئة يسودها هذا الحجم من السُباب الرقمي، والتشهير الممنهج، والتسطيح العام.
بل الأخطر أن الذباب لا يكتفي بتشويه الأفراد، بل يسهم في إعادة تشكيل وعي الجماهير عبر الأكاذيب. حيث يتم تسويق الجهل على أنه رأي، والشتيمة على أنها شجاعة، والخيانة على أنها وعي سياسي. وهكذا تتلوث العقول، وتُختطف الأجيال، وتغرق المجتمعات في مستنقع لا قاع له.
إن الجريمة ليست فقط في من يُغرد، بل في من يُخطط، ويموّل، ويصمت. من يبرر، أو يسكت، أو يُداري هذه الجيوش، إنما يشارك في جريمة قتل بطيء للعقل العربي. وكأننا لم نتعلم شيئًا من تجارب الاستبداد والإقصاء والخراب.
نحن بحاجة إلى إعلام يفضح لا يُساير. إلى قوانين تحمي لا تُرهب. إلى خطاب يُربّي لا يُعبّئ. فالمجتمعات لا تنهض بالشتم، ولا بالتحقير، بل بالفكر، بالحوار، بالاحترام.
ولعل السؤال الأكثر إلحاحًا الآن: هل نحن أمام لحظة صدق مع الذات؟ هل نعترف أن الكثير مما يُقال باسم الشعب، لا يمثل إلا فئة مسيّرة، تُدار عن بعد؟ هل نملك الجرأة لنقول إننا فشلنا في اختبار الحرية حين أُتيحت لنا؟
إن العالم العربي اليوم لا يواجه فقط أزمة سياسية أو اقتصادية، بل أزمة ضمير رقمي. ذباب يُحلّق في كل اتجاه، يلوّث كل ما يمرّ عليه، ويترك خلفه حقلًا من الرماد الثقافي والإنساني.
آن الأوان أن نقولها بوضوح: الكلمة مسؤولية، والمنصة ليست مزبلة عامة لتفريغ العقد النفسية والسياسية.
إما أن نواجه هذه الميليشيات الرقمية ونفضح مموليها ومشغليها، أو نستعد جميعًا للغرق في طوفان من الكذب، يُغرق الحقائق، ويطفو فيه أسوأ ما فينا.
فلا حرية مع الذباب، ولا وطن مع الشتائم، ولا مستقبل في ظل عقل مُستباح بالكراهية، لا يمكن استعداء كل الشعوب العربية فلم يسلم شعب من الشعوب من جيوش الكراهية المصابة بأمراض البغض لكل ما هو آخر من منطق الاحتكار والاستقواء وتوظيف المكانة الدينية في غير مكانها.
هذا ليس خطابًا مثاليًا. هذه صرخة عقل يحاول ألا يُكسر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة