الذكاء الاصطناعي يهز عقيدة الردع النووي.. نهاية التوازن؟

لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة دعم في هندسة القوة العسكرية، بل بات لاعبًا ناشئًا على مسرح الردع الاستراتيجي.
فبينما تُضاعف الجيوش الكبرى رهاناتها على أنظمة التحكم المدعومة بالذكاء الاصطناعي، يلوح في الأفق سؤال: هل يمكن لخوارزمية أن تقوّض الردع النووي؟
الإجابة كشفت عنها مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، قائلة إنه في ظل التطور السريع للذكاء الاصطناعي، توقع العديد من المحللين تغييرًا جذريًا في السياسة الدولية وتوازن القوى العسكرية.
وبحسب المجلة الأمريكية، فإن الذكاء الاصطناعي سيعزز الأسس الاقتصادية والسياسية والعسكرية لقوة الدولة، لكن الفائز في هذا السباق لن يتمتع بالضرورة بهيمنة مطلقة على منافسيه الرئيسيين حيث لا تزال قوة الأسلحة النووية تُشكل عائقًا رئيسيًا أمام التغيير الجذري الذي أحدثه هذا التطور التقني.
ومع استمرار أنظمة الردع النووي فإن المزايا الاقتصادية والعسكرية التي يُنتجها الذكاء الاصطناعي لن تسمح للدول بفرض تفضيلاتها السياسية بالكامل؛ فمثلا اقتصاد الولايات المتحدة أكبر بنحو 15 مرة من اقتصاد روسيا، وأكبر بنحو 1000 مرة من اقتصاد كوريا الشمالية، ومع ذلك تُكافح واشنطن لإجبار موسكو أو بيونغ يانغ على فعل ما تُريده وهو ما يرجع إلى ترسانتيهما النووية، بحسب المجلة الأمريكية.
الضربة الثانية
ومع ذلك، يرى بعض المحللين أن تطورات الذكاء الاصطناعي قد تُشكل تحديًا لهذه الديناميكية وفقا لـ«فورين أفيرز» الأمريكية التي قات إنه لتقويض الردع النووي، سيحتاج الذكاء الاصطناعي إلى تقويض ركيزته الأساسية وهي قدرة الدولة على الرد على هجوم نووي بضربة نووية مُدمرة من تلقاء نفسها، وهو ما يُعرف بقدرة الضربة الثانية.
ويُمكن لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، أن تُسهّل على دولة ما تدمير الترسانة النووية الكاملة للعدو في "ضربة أولى مُذهلة" واحدة من خلال تحديد مواقع الغواصات النووية والقاذفات المتنقلة، كما يُمكنها منع العدو من شن ضربة انتقامية من خلال تعطيل شبكات القيادة والتحكم. ويمكن أن يعزز الدفاعات الصاروخية بحيث لا يعود بإمكان الخصم التهديد بالانتقام.
لكن تقويض توازن القوى النووية لن يكون سهلاً فلا تزال التقنيات الناشئة تواجه قيودًا في المجال النووي، وحتى أكثر أنظمة الاستهداف والاستشعار المدعومة بالذكاء الاصطناعي تطورًا قد تجد صعوبة في تحديد موقع منصة إطلاق نووية متنقلة مخبأة تحت جسر، أو عزل إشارات غواصة مسلحة نوويًا عن ضجيج المحيط، أو تنظيم التدمير المتزامن لمئات الأهداف برًا وجوًا وبحرًا دون أي مجال للخطأ.
إجراءات خطيرة
ومع ذلك، حتى لو لم يُشكل الذكاء الاصطناعي تحديًا للردع النووي، فإنه قد يُشجع على انعدام الثقة واتخاذ إجراءات خطيرة بين الدول المسلحة نوويًا بهدف حماية وتعزيز قدراتها على الرد بالضربة الثانية مما سيثير قلق المنافسين ويُحفز بالتالي سباقات تسلح باهظة الثمن وخطيرة.
ومن الممكن أن تتجاوز أنظمة الذكاء الاصطناعي عتبةً حاسمة لتُظهر تحسينات سريعة في قدراتها، وقد تُصبح مزاياها أكثر وضوحًا مما يجعل من الصعب على المنافسين مواجهتها.
وينبغي على صانعي السياسات:
- تسهيل التواصل المنتظم بين الذكاء الاصطناعي والخبراء النوويين
- اتخاذ خطوات للحد من احتمال وقوع الحوادث والتصعيد
- البحث عن نقاط الضعف المتعلقة بالذكاء الاصطناعي
- الحفاظ على قنوات الاتصال بين القوى النووية.
ويعتمد الردع النووي، في جوهره، على امتلاك الدول القدرة على الرد بعد امتصاص هجوم نووي ومع حفاظ قوتين نوويتين على قدرة الضربة الثانية فإن الضربة الأولى تُعتبر انتحارية، لكن قدرات الضربة الثانية ليست محصنة ضد الاختراق خاصة مع ظهور الذكاء الاصطناعي الذي يستطيع أن يُمكن جيش ما من استهداف الأصول النووية لمنافسيه بشكل أفضل.
ومع ذلك، حتى بمساعدة الذكاء الاصطناعي، لن تكون الدول متأكدةً تمامًا من أن الضربة الأولى ستُدمّر قدرة الخصم على الرد.
وبالإضافة إلى تسهيل العثور على الأسلحة النووية للعدو وتدميرها، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يهدد بشكل معقول أنظمة القيادة والتحكم النووية اللازمة لشن ضربة انتقامية لكن تدمير نظام قيادة وتحكم كامل دفعة واحدة لن يكون سهلاً، حتى مع التكنولوجيا المتقدمة.
إضعاف الردع؟
وهناك أيضا مخاوف من أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى إضعاف الردع النووي من خلال تحسين الدفاعات الصاروخية، مما يُقلل من احتمالية نجاح ضربة ثانية ويجعل الضربات الأولى أكثر إغراءً.
وعلى سبيل المثال، قد تُحلل خوارزميات التعلم الآلي البيانات من أجهزة استشعار متعددة بسرعة لتمييز الرؤوس الحربية الفعلية عن الصواريخ الوهمية المتطورة، وتسريع عملية اتخاذ القرار بمجرد إطلاق العدو لصواريخه كما يمكن للتطورات البرمجية أن تُسهّل التنبؤ بمسار الصاروخ.
بالإضافة إلى ذلك، قد يُساعد الذكاء الاصطناعي في إنتاج صواريخ اعتراضية أخف وزنًا وأكثر مرونة تكون أرخص وأكثر قدرة على المناورة أثناء الطيران.
لكن أيًا من هذه التطورات لن يحدث بين عشية وضحاها إنما تستغرق سنوات لتطويرها، وفي هذا الوقت لن يقف خصوم الولايات المتحدة مكتوفي الأيدي؛ فبإمكانهم إطلاق هجمات من اتجاهات غير متوقعة، أو إغراق الدفاعات بهجمات صاروخية منسقة أو استهداف أنظمة الدفاع الرئيسية مباشرةً.
وفي حال أصبح الدفاع الصاروخي قويًا لدرجة يصعب التغلب عليها، يمكن للدول اللجوء إلى أساليب إطلاق أكثر إبداعًا، مثل تهريب الأسلحة النووية الصغيرة ووضعها مسبقًا في أراضي العدو.
وقد يحاول خصوم الولايات المتحدة إرباك خوارزميات الذكاء الاصطناعي من خلال التلاعب بتجارب الصواريخ ويعني هذا أنه حتى الدفاعات المُعزَّزة بالذكاء الاصطناعي قد تواجه قيودًا مادية واقتصادية يمكن للقوى النووية المتطورة استغلالها.
وينبغي أن يظل الردع النووي قويًا في مواجهة الذكاء الاصطناعي الذي قد يشكل خطرا على الاستقرار النووي العالمي إذا شعرت الدول بوجود تهديدات أكبر تدفعها لاتخاذ إجراءات قد تُزعزع الاستقرار.
فمثلا إذا اعتقدت دولة ما أن منافسًا مدعوما بالذكاء الاصطناعي يمكنه اكتشاف صواريخها بسهولة أكبر، فقد تُقرر بناء المزيد من الرؤوس الحربية، وتخزين المزيد من أسلحتها على مركبات متنقلة يصعب اكتشافها.
مهمة شاقة
وإلى جانب هذا الغموض المُزعزع للاستقرار، لا يزال من المُمكن أن تُطوّر الدول أنظمة ذكاء اصطناعي أقوى بكثير قد تُهدد أساليب الردع النووي بطرق لا يُمكن توقعها حتى الآن.
لكن حتى لو كان الذكاء الاصطناعي موردًا قويًا، فهو ليس سحرًا، وستواجه الدول التي تسعى إلى استخدامه لنزع سلاح خصومها حدودًا مادية وعملية ومؤسسية حقيقية.
فمثلا ستحتاج الدولة المدعومة بالذكاء الاصطناعي قبل أن تفكر في سحق منافس نووي إلى دمج الذكاء الاصطناعي المتقدم في البيروقراطيات العسكرية واسعة النطاق، وهي ليست مهمة سهلة.
كما يتعين عليها معرفة كيفية اختبار هذه الأنظمة مسبقًا وهي مهمة شاقة نظرًا للحاجة إلى تجنب إثارة رد فعل استباقي والتدرب على آلاف الخطوات مع هامش ضئيل للخطأ.
وحتى لو استمر الردع النووي، سيظل الذكاء الاصطناعي يُحدث تحولاً في الأمن القومي بعدة طرق بما في ذلك مساعدة الدول على تطوير أسلحة ذاتية التشغيل جديدة، وتعزيز القدرات السيبرانية الهجومية والدفاعية.
ولا ينبغي للمسؤولين الأمريكيين الانتظار لرؤية التقدم الذي يُحدثه الذكاء الاصطناعي إنما يتعين عليهم ضمان أن تشمل عمليات وضع السياسات خبراء الذكاء الاصطناعي إلى جانب الخبراء النوويين كما يجب عليهم إجراء مراجعات دقيقة للأنظمة النووية للتحقق من نقاط الضعف التي يمكن استغلالها من قبل الذكاء الاصطناعي المتقدم.
ومع احتدام التنافسات السياسية بين القوى العظمى في العالم، أصبح من المهم أكثر من أي وقت مضى الحفاظ على قنوات الاتصال لتقليل خطر التصعيد غير المقصود.