واحدة من أهم الصفات التي اكتسبها البشر على مر التاريخ هي قدرتهم على رسم المسارات المستقبلية، وتوقع المستقبل واستشرافه، وتخيل السيناريوهات المتوقعة..
لذلك نجد ألبرت أينشتاين نفسه يقول: "إن التخيل أهم من المعرفة وعندما سُئل أينشتاين عن مقصده"، قال جملته الشهيرة: "المعرفة محدودة، في حين أن التخيل يحيط بالعالم بأسره، ويحرك التقدم، ويولد التطور."
والحقيقة أن جزءًا من مخاوف العالم حول ثورة الذكاء الاصطناعي التي نعيشها الآن، يكمن فيما يحيط بهذه الثورة من تساؤلات تظل غير معروفة. هل سيمتلك الذكاء الاصطناعي يومًا قدرة "الإرادة المستقلة"؟ وما يحيط هذا من تخيلات وسيناريوهات مرعبة قد تنهي التطور البشري برمته، على الرغم من المنافع الهائلة التي تبدو رائعة من الوهلة الأولى.
قديماً، كان الأدب والسينما يوفران نافذة سحرية للبشر للمستقبل. ففي رواية "Futility" أو "The Wreck of the Titan" التي كتبها مورغان روبرتسون عام 1898، تناولت قصة سفينة ضخمة تُدعى "تيتان" تغرق في رحلتها الأولى بعد اصطدامها بجبل جليدي. نُشرت هذه الرواية قبل 14 عامًا من غرق سفينة تيتانيك الحقيقية، مما جعل البعض يعتقد أن روبرتسون قد تنبأ بهذه الكارثة.
الأمر تكرر كذلك مع رواية "The Running Man" للكاتب ستيفن كينغ، حيث يظهر مشهد تحطم طائرة في ناطحة سحاب، مما اعتبره البعض نبوءة لأحداث 11 سبتمبر/أيلول. كما أن فيلم "Long Kiss Goodnight" عام 1996 تضمن مشهدًا يتحدث عن طائرة تندفع نحو مبنى في نيويورك.
وقبل عدة سنوات، أعاد البعض التذكير برواية "The Eyes of Darkness" للكاتب دين كونتز، التي صدرت في عام 1981، وأشار خلالها المؤلف إلى فيروس "ووهان-400" الذي يظهر في مدينة ووهان الصينية ويتسبب في انتشار واسع للمرض. لاقت هذه الرواية رواجًا كبيرًا خلال جائحة كوفيد-19.
عزيزي القارئ، أحدثك هنا عن أحداث وقعت بالفعل، تنبأ بها الأدباء والمبدعون قبل سنوات عديدة من حدوثها بالفعل، وإذا بحثنا قليلاً كيف تنبأ الأدباء بثورة الذكاء الاصطناعي نجد مثلاً أفلامًا عديدة لا يتسع المجال لذكرها كلها في مقال واحد، لكن يمكنني أن أشير فقط إلى فيلمي "Terminator" و"I, Robot"، حيث منحنا القائمون عليهما لمحات مفصلة عن حروب المستقبل المحتملة مع الذكاء الاصطناعي.
تناولت هذه الأعمال السينمائية كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتطور ويتحول من أداة مساعدة للبشر إلى كيان قادر على اتخاذ قرارات مستقلة قد تؤدي إلى صراعات كبرى.
وفي فيلم "Terminator" ذائع الصيت للممثل الأسطوري أرنولد شوار زينجر وإخراج جيمس كاميرون، الذي يتناول حروب البشر مع الآلات في عدة أجزاء، تتصور الافلام عالماً تسيطر فيه الآلات على البشر، وتتحول الآلات، بعد تطويرها، إلى كائنات مستقلة تسعى إلى القضاء على البشر لضمان بقائها. هذا السيناريو يقدم رؤية مروعة لمستقبل يمكن أن يحدث إذا فقدنا السيطرة على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
أما في فيلم "I, Robot" للنجم العالمي ويل سميث وإخراج أليكس بروياس، الذي يتمحور حول الصراع مع الذكاء الاصطناعي الذي يُستخدم لاتخاذ قرارات لصالح البشر، كانت فكرة الفيلم البسيطة والمرعبة في ذات الوقت أنه إذا منحنا الذكاء الاصطناعي القدرة على التحليل واتخاذ القرارات لصالح البشر، وفي الوقت نفسه برمجنا الروبوتات على تنفيذ أوامر البشر، فسيكون هناك تعارض في بعض الأحيان، مما يؤدي في النهاية إلى ثورة الروبوتات. تبدأ الروبوتات في اتخاذ قرارات تتعارض مع إرادة البشر، مما يؤدي إلى صراعات وحروب.
الأدب والسينما لا يقدمان فقط رؤى مروعة عن المستقبل، بل يقدمان أيضًا دروسًا مهمة يمكننا الاستفادة منها في التعامل مع التحديات المحتملة التي قد نواجهها بسبب التطورات في الذكاء الاصطناعي.
ولذلك في السنوات الأخيرة، أصبحت الروبوتات الذاتية القيادة والأسلحة المستقلة جزءًا من النقاش حول حروب المستقبل. تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تمكن الآلات من اتخاذ قرارات سريعة وفعالة قد تكون مدمرة إذا استخدمت في الحروب. تصور هذه الرؤية عالماً يمكن أن تقود فيه الآلات الحروب، حيث يكون للبشر دور ثانوي في اتخاذ القرارات.
وهنا في واشنطن كان الموضوع محور بحث للعديد من المراكز البحثية ومراكز صنع القرار، ففي وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة (DARPA)، وهي من المؤسسات الرائدة في البنتاغون التي تعمل على تطوير تقنيات متقدمة للتنبؤ بالتهديدات المستقبلية والتصدي لها، تعمل على مشاريع تشمل تحليل البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالكوارث والجرائم والأحداث الأمنية.
بطبيعة الحال، قد يستغرق الأمر عدة سنوات لوضع مبادئ أخلاقية عامة لضبط استخدامات الذكاء الاصطناعي، لأن الوقت الذي نعيشه أشبه بسباق تسلح عالمي جديد.
ففي خطاب متلفز في سبتمبر/أيلول 2017، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن أول دولة تطور ذكاءً اصطناعيًا حقيقيًا ستحكم العالم. وهكذا أبدت الدول الكبرى اهتمامًا كبيرًا بالاستخدام العسكري للذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة، وأصبح هناك سباق لتطويره.
دراسات عديدة في الولايات المتحدة حذرت من أن التوسع في استخدامات الذكاء الاصطناعي يزيد من خطر نشوب حرب نووية. وقد استشهد العديد من العلماء بواقعة الملازم السوفياتي الذي أنقذ العالم في عام 1983، حيث اكتشف نظام إنذار أوتوماتيكي سوفيتي صواريخ نووية تنطلق من الولايات المتحدة.
ووفقًا للبروتوكول، كان على الجيش السوفياتي إطلاق صواريخه النووية للهجوم المضاد، قبل سقوط الصواريخ النووية الأمريكية. ومع ذلك، اشتبه أحد ملازمي القوات الجوية السوفياتية في وجود إنذار كاذب من نظام الإنذار التلقائي وألغى أمر الإطلاق النووي، اعتمادًا على "الحدس البشري" فحسب. وبينما تبين خطأ نظام الإنذار التلقائي في اكتشاف الأضواء المنعكسة عن السحب، نجح الحدس البشري، ومنع الملازم تدمير العالم بالأسلحة النووية.
وفي التاريخ، هناك العديد من الأمثلة والنماذج التي يجادل العلماء الآن أنه إذا تم الاعتماد فقط على الذكاء الاصطناعي للتعامل معها ستكون النتائج كارثية. فماذا لو كان الأمر بيد الذكاء الاصطناعي في الحرب الكورية؟ يعتقد العلماء أن الحسابات الميكانيكية التي يعتمد عليها الذكاء الاصطناعي كانت لتنصح الرئيس الأمريكي هاري ترومان بتوجيه ضربة نووية ضد الأعداء. هل كان الذكاء الاصطناعي يمكن أن ينصح الرئيس الأمريكي جون كينيدي بالوقوف متفرجًا عندما أقدمت القوات السوفياتية على بناء جدار برلين؟
يشك العلماء في أن الذكاء الاصطناعي كان سيتخذ قرارات تؤدي في النهاية إلى تدمير أكبر وحروب أوسع. يخشى صناع القرار من أن اعتماد الذكاء الاصطناعي على الحسابات الميكانيكية فحسب، يمكن أن يؤدي إلى إطلاق ضربة استباقية مبكرة من أجل ردع الجانب الآخر عن اتخاذ أي إجراء وخلق ميزة استراتيجية، الأمر الذي سيكون مقدمة لحروب لا تنتهي.
ولعل أهم ما قيل في هذا الشأن كان من عالم الفيزياء الأشهر ستيفن هوكينغ الذي حذر العالم من أن "الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى نهاية البشرية".
أما عن الإجراءات التي يمكن اتخاذها لتقليل أخطار الذكاء الاصطناعي، فسنتناولها في المقالات المقبلة إذا كان في العمر بقية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة