تتعرّض تركيا لحصار سياسي وإرهابي منظّم، وترفع إيران سقف تدخلاتها العدوانية استباقًا لواقع تخشى أن يكون مختلفًا في واشنطن.
في الساعات الدامية التي تلت اعتداء رأس السنة في إسطنبول، تعدّدت الإعلانات الرسمية التركية عن ملابسات الجريمة الجماعية البشعة. وللأسف، انكشفت ثغرات أمنية يظهر أن سلطات أنقرة تتردد في الإقرار بخطورتها.
الحقيقة، أن الظروف الأمنية والسياسية المحيطة بعملية إسطنبول سيئة جدًا، وما حدث بعدها أيضًا لا يقل سوءًا. ذلك أن المشتبه به لم يتمكّن من الفرار فحسب، بل إن أصابع الاتهام لم تستقرّ على هوية محدّدة له لبضعة أيام. ولئن كان تنظيم داعش – كعادته في هذه الحالات – لم يقصّر في «التبرّع» بإعلان مسؤوليته، فإن عملية من هذا النوع، وتستهدف مثل هذا الهدف، تُراكِم علامات الاستفهام والتعجب... أولاً على الهوية السياسية – العقائدية لهذا التنظيم، وثانيًا نهج تفكيره وتحليله لمُجريات الأمور من حوله، وثالثًا الجهات التي تستفيد منه إن لم تكن تلك التي تحرّكه وتستغله.
تركيا، بكل وضوح، تعيش أزمة بل أزمات. ومن حق السلطة الحاكمة أن تصفها كما تشاء، وأن تحمل المسؤولية في تفاصيلها ودقائقها كما هي أو كما ترى أنها يجب أن تكون. لكن هذا لا يغيّر في الواقع شيئًا.
أيضًا ليست تركيا وحدها «المأزومة»، بل ثمة لاعبون إقليميون وعالميون آخرون يتعاملون معها - كل من موقعه - ليسوا في أوضاع سياسية طبيعية، بدءًا من الولايات المتحدة الأميركية نفسها ووصولاً إلى جيران تركيا و«أصدقائها اللدودين» مثل إيران.
على أن المشهد العام في الشرق الأوسط يغدو مثار قلق أكبر بكثير عشية «الزلزال» الأميركي المتمثل باحتلال دونالد ترامب في البيت الأبيض، لا سيما، أن مقارباته للملفات الإقليمية والدولية الشائكة مبهمة ومتناقضة وحادة وشخصانية. وفي المقابل، تتشكّل الآن مقاربات القوى الإقليمية في الشرق الأوسط للسنوات الأربع المقبلة لحكم ترامب على أساس الحد الأقصى من استغلال «الأمر الواقع» المختل أصلاً. وباستثناء التحالف الاستراتيجي الأميركي – الإسرائيلي يدرك الجميع أنهم يتعاملون مع «المجهول» في واشنطن. وبالأخص، أن المهمة الأولى لعهد ترامب ستكون تثبيت علاقته وضبطها مع «مؤسسة» الحزب الجمهوري التي انقلب عليها الناخبون عندما صوّتوا للرئيس المنتخب.
وحدها إسرائيل، رغم المشاكل الشخصية لرئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، يحق لها الاطمئنان إلى أن مصالحها العليا لن تتأثر سلبيًا من سياسات «الرئيس» ترامب، في حين تنم تعيينات إدارته العتيدة عن تضارب وتقاطع غريب، لا يعد بانتهاج سياسات سلسة طويلة المدى. حتى روسيا، التي لعبت – كما نسمع – دورًا مؤثرًا في تدمير فرص انتخاب منافسة ترامب الديمقراطية هيلاري كلينتون، والتي تحمّست ولا تزال لفوزه، والتي تحتفظ بعلاقات عملية طيبة مع ريكس تيلرسون الذي اختاره ترامب وزيرًا لخارجيته، لا يمكن أن ترتاح إلى ما لا نهاية إذا ما فرض «صقور» الجمهوريين على الرئيس أولوياتهم.
أما بما يخصّ إيران، فهي على الرغم من استثمارها المُربح مع إدارة باراك أوباما، لن تستطيع أن تضمن بالمطلق ألا ينعكس اتجاه الريح. والمرجح أن تكون علاقتها - الإيجابية والسلبية - مع كل من موسكو وتل أبيب عاملاً مؤثرًا في كيفية تعامل ترامب معها. كذلك قد يعتمد الكثير على التطورات الداخلية الإيرانية، ولا سيما، مع تزايد نفوذ «الحرس الثوري» وعدوانيته، والتساؤلات الملّحة حول صحة المرشد الأعلى علي خامنئي، وفقدان «إصلاحيي» العلاقات العامة الماهرين أحد ألمع قادتهم... علي أكبر هاشمي رفسنجاني.
وهكذا، إذا ما اعتبرنا أن الثقل العربي مغيّب عن الحسابات الأميركية خارج اعتبارات مُحاربة الإرهاب والتطرّف «الإسلاموي» (السنّي، تحديدًا)، تبقى تركيا في عين العاصفة. ولدى عرض العمليات الإرهابية التي استهدفت تركيا خلال الأشهر الـ12 الأخيرة، يظهر بوضوح أن هناك عدة أطراف لديها مصلحة إما بابتزاز تركيا لإجبارها على تبنّي سياسات محدّدة، أو خلخلة استقرارها تمهيدًا لفرض تغيير نظامها سواءً عبر صناديق الاقتراع، أو ثكنات العسكر، أو تشجيع القوى الانفصالية ورعايتها على تمزيق وحدتها الوطنية.
الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان يشعر بثقل التحدّي، وهو حتى الآن يركّز على مواجهته بتحدٍّ مضاد عبر مسارين اثنين: الأول، إلقاء تهم العمليات الإرهابية والتخريبية على خصومه المحليين وعلى رأسهم جماعة غريمه الداعية فتح الله غولن، والقوى الانفصالية الكردية. والثاني، الإصرار على تحويل نظام الحكم إلى نظام رئاسي يجمع بموجبه صلاحيات وسلطات واسعة في يديه، بدلاً من النظام البرلماني حيث يتسنّى لقوى المعارضة البرلمانية مساءلته وإبطاء مبادراته وإجراءاته. وبين هذين المسارين تتأرجح اليوم السياسة التركية داخليًا وخارجيًا.
ومع أن إردوغان يحرص على اتهام خصومه المحليين بأنهم وراء مسلسل الإرهاب الذي يضرب تركيا - بجانب «داعش»، طبعًا - فإنه يدرك حقيقة أن تركيا مُستهدَفة كدولة وكنظام. ولهذا هدّدت أنقرة بإغلاق قاعدة أنجيرليك (بجنوب تركيا) أمام قوات التحالف الدولي - أي عمليًا، القوات الأميركية المشاركة في التحالف - في ضوء مواصلة واشنطن دعمها السخي عسكريًا وتسليحيًا وسياسيا للميليشيات الكردية داخل سوريا. وحجّة واشنطن الضمنية للابتزاز بالورقة الكردية الاعتراض على «نهج» أنقرة الإسلامي الذي يرى البعض في العاصمة الأميركية أنه عامل مساعد على التشدّد، ومن ثم، الإرهاب.
في المقابل، لا تنظر أنقرة وموسكو إلى تطوّر علاقاتهما الثنائية أخيرًا على أنه مسيرة حثيثة ستفضي لتفاهمات عريضة، وحتمًا ليس إلى تحالف استراتيجي. ومجدّدًا بات الموضوع الكردي هنا ورقة ابتزاز، ولكن على مسرح العمليات السوري. وكما يَرشَح من مباحثات أنقرة بين ممثلي المعارضة السورية والسلطات التركية تمهيدًا لـ«مؤتمر آستانة» حول سوريا، فإن أنقرة تجد نفسها في موقف غير مريح يفرضه ضغط موسكو وتخلّي واشنطن. وهذا ينعكس سلبًا على المعارضة السورية وثورتها ككل.
وفي هذه الساعات، قبل أيام من تولّي ترامب منصبه، وانعقاد «مؤتمر آستانة» - إذا انعقد - تختطف موسكو المبادرات الدولية، بمباركة أميركية، وتتعرّض تركيا لحصار سياسي وإرهابي منظّم، وترفع إيران سقف تدخلاتها العدوانية استباقًا لواقع تخشى أن يكون مختلفًا في واشنطن.
* نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة