ما بعد "أستانة 11".. فشل يبعثر بوصلة حل الأزمة السورية
الجولات حول سوريا تنتهي بـ"كلاشيهات" باتت مكررة بينها الالتزام بوحدة وسيادة واستقلالية سوريا، ومواصلة الحرب على التنظيمات الإرهابية.
تحولت البيانات الختامية للمحادثات المقامة بالعاصمة الكازاخية "أستانة" حول الأزمة السورية إلى مجرد "كلاشيهات" وشعارات مكررة، خالية من أي حلول جذرية أو خارطة طريق حقيقية لحسم حرب مستعرة منذ أكثر من 7 سنوات.
واختتمت الجولة الـ11 من محادثات "أستانة"، الخميس الماضي، دون التوصل إلى أي اتفاق حول اللجنة الدستورية، وفي ظل الحديث عن "توافقات محدودة على بعض النقاط".
لكن في ختام كل جولة مباحثات توجد "كلاشيهات" باتت مكررة بعد كل لقاء، بينها الالتزام بوحدة وسيادة واستقلالية سوريا، ومواصلة الحرب على التنظيمات الإرهابية، وضرورة الإسراع بتأمين عودة مئات الآلاف من اللاجئين وإعادة إعمار البلاد.
فالتوقعات في الجولة الأخيرة كانت مرتبطة بتفاهمات "سوتشي" التركية الروسية حول الحل في إدلب، واستعدادات الطرفين لتفعيل خارطة طريق ثنائية جديدة شمال غربي سوريا، باتجاه تثبيت وقف إطلاق النار وإخراج الجماعات المتطرفة من المعادلة.
لكن المفاجأة كانت في عودة إيران بقوة بعد الرسائل الميدانية الأخيرة التي وجهتها طهران إلى الروس والأتراك عبر النظام أو مليشياتها المحلية بالداخل السوري، بأن لا فرص لأي طاولة تستبعدها في منطقة إدلب وجوارها.
الخارجية الأمريكية لم تنتظر، من جانبها، مغادرة المشاركين للعاصمة الكازاخية لتعلن أن الأطراف وصلت إلى طريق مسدود.
غير أن الثابت هو أن اجتماعات أستانة لم تفشل بالطبع لأن واشنطن لم ترسل موفدها الخاص إلى سوريا جيمس جيفري للمشاركة، أو لأنها هي التي أعلنت النتيجة باكرا، مؤكدة ما تقوله دائما من أن "مسار أستانة لم يؤد سوى إلى مأزق في سوريا".
ولم يفشل الاجتماع أيضا بسبب ما قاله المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، في آخر إفادة له بمجلس الأمن الدولي قبل الوداع، من أن موسكو وأنقرة وطهران أخفقت في تحقيق أي تقدّم ملموس في التعامل مع ملفات أساسية تفتح الطريق أمام التسوية السياسية في سوريا.
المفاوضات لم تفشل أيضا لأن العديد من العواصم الأوروبية أعلنت خيبة أملها بعد اجتماعات استغرقت يومين، ولم تحقق أي تقدم في ملفات تشكيل اللجنة الدستورية، وتثبيت اتفاقات إدلب من خلال إنهاء الخروقات اليومية وإخراج مسلحي "جبهة النصرة" الإرهابية من المعادلة.
فالاجتماعات فشلت لوجود أكثر من مؤشر محلي وإقليمي، سياسي وأمني يعكس أن الاحتمال الأقرب والأقوى كان الطريق المسدود مرة أخرى في أستانة.
فهناك أولا التناقضات الروسية المتفاقمة، مؤخرا، بشأن تحديد موقفها حيال ما يجري في إدلب، فتارة تقول موسكو إنها تسير مع أنقرة جنبا إلى جنب في توفير الحل للأزمة، وطورا تعتبر أنّه لا بد من إشراك طهران وأخذ ما تقوله بعين الاعتبار.
فصباحا، تتحدث موسكو عن عملية عسكرية لا بد منها ضد مجموعات "النصرة" في إدلب، ومساء، تقول إن العملية العسكرية تحمل الكثير من المخاطر على التوازنات الحساسة بالمنطقة.
وطهران من ناحيتها، تحرض في الخفاء النظام السوري على تفجير الوضع لأن مصالحها معرضة للخطر عبر تسوية تركية روسية في إدلب، لكنها في العلن تقول إنها مع "اتفاق سوتشي" والاستقرار، مدعية أنها ستعمل مع موسكو وأنقرة على توفير الحل بطرق سلمية، ولن تدعم النظام للتحرك إلا للرد على أي استفزازات ضده.
أما أنقرة بدورها فتلعب على عامل الوقت لصالحها، عبر إشراك دول جديدة في منصة أستانة كما فعلت في قمة إسطنبول الرباعية الأخيرة، وإطالة عمر الأخذ والرد في إدلب حول طريقة القضاء على مسلحي النصرة، ريثما تتوضح مسألة شرق الفرات وكيف ستكون تفاهماتها مع واشنطن هناك، واحتمالات أن تتواجد واشنطن نفسها أمام طاولة صنع الحل في سوريا.
ورسائل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كانت تقول إن "أنقرة وموسكو قادرتان على تغيير مصير الشرق الأوسط في حال اتخاذهما قرارات جادة.. أنا مقتنع اليوم بأن الرئيس الروسي يريد إنهاء المأساة في سوريا".
المؤكد هنا، وعلى ضوء ما أعلنته أنقرة بعد ساعات على اللقاءات الثنائية لأردوغان مع نظيريه الأمريكي والروسي على هامش قمة العشرين بالأرجنتين، بأنه: "أنقذنا غرب الفرات والآن سننقذ شرقه"، هو أن "المسألة حساسة للغاية " كما قال بوتين، وإلا فما معنى أن تسارع موسكو للإعلان أنها تتفهم الصعوبات التي تواجه تركيا في تنفيذ عملية إخلاء المنطقة منزوعة السلاح في إدلب من المسلحين"؟
وما المغزى من أن يبادر وزير الخارجية الروسية سيرجي لافروف للإعلان أن "الولايات المتحدة تدير لعبة خطيرة على الضفة الشرقية لنهر الفرات"؟.
وكان الموقف الروسي -للتذكير فقط- سبق وتحدث عن استعداد موسكو لمساعدة المعارضة السورية المعتدلة في القضاء على مسلحي "جبهة فتح الشام" التي تبسط سيطرتها على أكثر من نصف مساحة إدلب، وترفض حتى الآن الانسحاب من المنطقة العازلة وفق تفاهمات روسيا وتركيا.
وفي الآونة الأخيرة، تعالت أصوات سورية معارضة تقول إن "مؤتمر أستانة خدمة مجانية لروسيا، لتصنع أطرافا إضافية تمهيدا لإشراكها في مؤتمر جنيف المقبل".
لكن هناك حقيقة أخرى أبعد من ذلك في تحليل أهداف موسكو المستقبلية في سوريا، تقوم على الإيقاع بأنقرة في مصيدة "مناطق خفض التوتر"، ومستنقع الحرب على "النصرة" في إدلب، وترك طهران أمام التهديدات الإسرائيلية اليومية لتواجدها ونفوذها في سوريا، ثم بناء صفقة شاملة مع واشنطن كما فعلت قبل أشهر على الحدود السورية الإسرائيلية.
أنقرة ترصد بقلق الأنباء التي تتحدث عن اقتراب واشنطن من إنجاز عملية تجهيز وتسليح أكثر من 30 ألف مقاتل من قوات سوريا الديمقراطية سيلعبون دورا جديدا في المعادلة السورية بعد القضاء على ما تبقى من عناصر "داعش" شرقي البلاد.
ووفق تقارير أمنية وعسكرية أمريكية، فإن مجموعات سوريا الديمقراطية تستعد في المرحلة المقبلة لقطع الطريق على المشروع الإيراني الذي استفاد من الحالة الأمنية والسياسية في سوريا لطرد آلاف المواطنين من أراضيهم في أكثر من مكان، بهدف استقدام آخرين من إيران لتغيير التركيبة الديموجرافية لسوريا.
غير أن ما قالته الإدارة الأمريكية في أكثر من مرة حول أسباب تواجدها في سوريا وضرورة القضاء على المشروع الإيراني، لا يعني الأكراد والقبائل في شمال شرقي سوريا وشرقها وحدهم بالطبع.
فالنقطة التي لا تملك أنقرة الكثير من المعلومات حولها، والتي تخيفها في سوريا هي مدى خطورة التفاهم الروسي - الإيراني أو الروسي - الأمريكي من وراء ظهرها هناك، والثمن الذي قد تدفعه والذي سيكون أكبر وأخطر مما تحملته من أعباء حتى الآن.
وإلا فما معنى أن يبادر أردوغان وهو يغادر قمة "بيونس آيرس" بالأرجنتين، وبعد ساعات فقط على لقاء عقده مع نظيره الروسي، بتوجيه الدعوة مجددا لعقد قمة تركية - روسية في القريب العاجل لبحث الوضع في محافظة إدلب؟
فالواضح والثابت هو أن الهدف الأساسي للقاء من هذا النوع، يكمن في نقاش تطورات شرق الفرات، ومعرفة تركيا حقيقة الموقف الروسي الذي يقلقها هناك.