في الوقت الذي قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون: "ودّعوا أحبابكم".. كان الشيخ محمد بن زايد يقول لبلاده: "لا تشيلون همّ".
لقد كان خطاب الجائحة معبِّرًا عن موقفَيْن: الصدمة والأمل.
العروبة والعطاء
التقيتُ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان أكثر من مرّة.. كانت المرّة الأولى في قصر الاتحادية، حين جاء داعمًا لمصر في تلك اللحظات الفارقة في أعقاب ثورة 2013، وكنتُ في تلك الأثناء مستشارًا للرئيس عدلي منصور.
وكانت المرّة الثانية في شهر مايو/أيار 2014، حين قابلتُه ضمن الوفد الرسمي المصري برئاسة المهندس إبراهيم محلب، رئيس الوزراء، وقد أشاد بأدائي الإعلامي، وقد زاد كرمًا بأنْ قال لدولة الرئيس "محلب" كلامًا طيّبًا عن المؤتمرات الصحافية التي قمتُ بعقدها.
في مطلع عام 2020 التقيته ضمن وفد مؤتمر "الأخوّة الإنسانية"، وقد كان سموّه بالغ الودّ والترحاب، وكان أوّل ما سألني عنه فور المصافحة: "ما أخبار الرئيس عدلي منصور؟ أرسل له سلامي.. وأبلغه احترامنا وتقديرنا".
في أوّل لقاء لي مع الرئيس عدلي منصور أبلغتُه رسالة صاحب السموّ، وقال لي "منصور": "إنّني أبادله الاحترام والتقدير، هو صديق عزيز لبلادنا، وهو امتدادٌ لوالده في العروبة والعطاء.. لقد فعل الشيخ محمد الكثير من أجل الإمارات ومن أجل العالم العربي".
عصر الحداثة
بدأت الحداثة الإماراتية مع اللحظة الأولى لتأسيس الدولة.. إذْ أُسِّس ذلك البلد على التسامح والانفتاح واحترام الآخر، وعلى ذلك التوازن بين العولمة والتقاليد، وبين الأصالة والمعاصرة.
وفي تقديري أنّ الرئيس الثالث للدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان يمثِّل عنوانًا رئيسيًّا للحداثة الإماراتية.. لقد أصبح ذلك البلد الفتيّ يحصد كلّ عام مراكز جديدة في ترتيب التقدّم في العالم.. وفي كلّ عام توجد طموحات جديدة وإنجازات جديدة، بحيث يبدو أن لا نهاية لآمال قادة البلاد في الحصول على مكان متميّز في خريطة المستقبل.
لم يكن وصول "مسبار الأمل" الإماراتي إلى المرّيخ استثناءً في تلك المسيرة، بل كان نتاجًا لإيمان حقيقيّ بالعلم والتكنولوجيا، وسعي جادّ نحو اللحاق بعالمٍ بدَا أنّ اللحاق به في عداد المستحيل.
إنّ الأركان الثلاثة لعصر الحداثة الإماراتي هي: الاتحاد والعلم والعطاء.. فقد كان تمتين الاتحاد وحماية وتقوية الدولة، وترسيخ المؤسسات الفيدرالية عملا مجيدًا بامتياز، وإنّ تطوير التعليم والبحث العلمي، ودعم الثقافة، وإطلاق المبادرات المعرفية العالمية جزء لا يتجزّأ من صورة الإمارات لدى العالم.
إنّ مشروع "تحدّي القراءة" الذي أطلقه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، لهو عنوان آخر للدور الثقافي العروبي للدولة.. فلقد نجحت المبادرات في جذب أكثر من 20 مليون قارئ عربي، وعزّزت اللغة العربية وآدابها، وأعادت الاعتبار للكتاب في زمن وسائل التواصل.
لقد نجحت الحداثة الإماراتية في مواجهة التطرّف والإرهاب، وفي تأسيس اللجنة العليا للأخوّة الإنسانية برئاسة شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان، وتعزيز قيم التسامح والحوار.
المبدأ التاسع
إنّ المبادئ العشرة التي اعتمدتها دولة الإمارات للخمسين سنة المقبلة، تمثّل رؤية استراتيجية والتزامًا قيميًّا يستحقّ الاحترام.
يتعلّق المبدأ الأول بتقوية الاتحاد، والثاني ببناء الاقتصاد، والثالث بالسياسة الخارجية وخدمة الأهداف العليا للوطن، والرابع برأس المال البشري، والخامس بمبدأ حسن الجوار، والسادس بترسيخ السمعة العالمية للدولة، والسابع بالتفوّق الرقمي، والثامن بمنظومة القيم القائمة على الانفتاح والتسامح، والتاسع بالمساعدات الإنسانية، والعاشر بالحوار والسلام كأساس.
تحتاج البنود العشرة إلى قراءة وتحليل، ويحتاج المبدأ التاسع إلى وقفةٍ مطوّلة، ذلك أنّه يجعل من البعد الإنساني مبدأ أساسيًّا من مبادئ دولة الإمارات، في نصف القرن المقبل.
يشير المبدأ التاسع إلى أنّ المساعدات الإنسانية الخارجية هي جزء أساسي في مسيرة الدولة، والتزاماتها الأخلاقية تجاه الشعوب الأقلّ حظًّا، وأنّ تلك المساعدات الإنسانية لا ترتبط بدينٍ أو عرقٍ أو لونٍ أو ثقافةٍ، وأنّ الاختلاف السياسي مع أيّ دولة لا يبرّر عدم إغاثتها في الكوارث والطوارئ والأزمات.
إنّ الدور الإنساني لدولة الإمارات يشكِّل ملمحًا أساسيًّا في صورتها لدى العالم.
وفي العشر سنوات الفائتة وصلت قيمة المساعدات الخارجية الإماراتية إلى 56 مليار دولار، وهو رقم كبير جدًّا، ما جعل الإمارات تحلّ في المرتبة الأولى مرّات عدة، لأعلى المانحين الدوليين للمساعدات الإغاثية مقارنة بالدخل القومي الإجمالي.
تمضي الإمارات في مجال المساعدات في طريقين متوازيَيْن، أحدهما يخصّ المساعدات التنموية، والثاني يخصّ المساعدات الخيرية.. ولا يكاد يمرّ أسبوع واحد دون دعم إماراتي بإحدى الطريقين لنحو 50 دولة حول العالم.
تقدّم أكثر من 30 جهة ومؤسسة إماراتية المساعدات الخارجية، وهي مساعدات غير مسيّسة.
في هذا الإطار كان طبيعيًا أن تقدّم الإمارات المساعدات للشعب الأفغاني عام 2020، في ظلّ حكومة الرئيس أشرف غني، ثمّ تواصل المساعدات عام 2021، بعد سقوط الحكومة وسيطرة حركة "طالبان".
يمكن للمرء أيضًا أن يرى خريطة مساعدات واسعة، تمتدّ من مخيّمات اللاجئين الروهينجا في بنجلاديش، إلى ضحايا الإعصار في جزر القمر، إلى مستشفيات الأطفال في كوسوفو.
ومن قبل الجائحة ومن بعدها، يحتاج إلى المساعدات الإنسانية مئات الملايين حول العالم، من أولئك الذين يعانون شُحّ المياه، أو سوء التغذية، أو نقص الطعام، أو انعدام التعليم، إلى تدهور الأمن.
ودون الدور الإنساني لدعم الدول الأقلّ حظًّا، سيكون العالم أكثر شقاءً وبؤسًا.
جرأة الأمل
إنّ ما أنجزته دولة الإمارات في نصف قرنها الأوّل يمثّل إنجازًا عربيا.. كلّ خبر سارّ للإمارات هو خبر سارّ لنا.. نجاحهم نجاح لنا، وتقدّمهم إضافة إلى عروبتنا وأُمّتنا.. لقد استطاع هذا البلد ذات يوم أن يمتلك جرأة الأمل.. وها هو يخطو لحقبة جديدة بثقةٍ وثبات.
نقلا عن "أساس ميديا"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة