في ذكرى تولي المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه مقاليد حكم إمارة أبوظبي في السادس من أغسطس/آب عام 1966، وجدتني أعود بذاكرتي إلى مرحلة مبكرة من طفولتي، مع ذكريات تتصل بهذه الشخصية التاريخية العظيمة والملهمة.
شخصية القائد الذي صنع أجيالاً وأجيالاً وما زال سراج تأثيره يسافر عبر الزمن إلى مواطن الجمال والرفعة والحياة. والمتبصر يدرك أن الشيخ زايد لم يكن قائداً فحسب، بل كان أباً لشعب الإمارات واستطاع أن يشكل مفهوماً حضارياً ومدنياً غنياً لهوية الإنسان في الإمارات.
ولعل في هذا الجانب يمكننا جميعا سرد قصص عايشناها جميعا وكل منا له حكاية وقصة من صميم الواقع.. أذكر ذلك الطفل الذي كنته والذي لا يربو عن سنته السادسة من عمره حينها في فرجان مدينة السمحة، تلك المدينة التي أخذت نصيباً وافراً من اسمها، أتذكر محطة مهمة من حياة أهلي حيث كان للأب المؤسس رحمه الله فضل كبير علينا فيها، وفي وجودنا فضل لا يمكن نسيانه وسرد جزء من تلك الذاكرة هو الوقوف على مشهدية الحياة في فترة كنا نسكن فيها مساكن بسيطة بجانب البيوت الكريمة والعامرة بمحبة الشيخ زايد وحكمته مثلما تتجلى تلك المحبة في بيوت كلّ الإماراتيين.
كانت تلك البيوت لعشرين أسرة تنتظر لحظة التحول، من بيوت هي أقرب إلى "الكرافانات" إلى البيوت الحديثة وبأمر من الشيخ زايد بن سلطان انتقلنا للعيش في منازلنا الجديدة التي أمر لنا بها فوجدنا الفرق وقوة الإرادة في فترة وجيزة وكان ذلك بتوجيه مباشر منه طيب الله ثراه.
وعن مدينة السمحة تلك المدينة التي سميت على بئر من آبارها وهي مدينة الأصالة والجمال وواحدة من المدن التي ازدهرت وتألقت بأعماله فيها وهي مدينة محاذية لمنطقة السميح التي اشتهرت باللقاء التاريخي بين القائدين العظيمين الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حاكم أبوظبي والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي آنذاك في إطار اتفاقية السميح لإعلان الوحدة بين إمارتي أبوظبي ودبي، ومن الواضح أن حكمة زايد كانت تهدف إلى تعزيز الاستقرار وبناء المجتمعات وخلق مجتمع مدني ينتمي إلى فكرة الدولة الحديثة التي تقوم على مفهوم المواطنة الصالحة وغرس قيم الولاء والانتماء للوطن.
في اليوم الذي تم فيه استلام مفاتيح المنازل الجديدة حضرت مع والدي وكان ذلك اليوم بالنسبة للعشرين عائلة يوم عيد، بل هو يوم تاريخي بكل المقاييس في تلك الفترة كان والدي أطال الله في عمره يعمل حينها في القوات المسلحة وأتذكر جيداً تلك التفاصيل وتلك الفرحة العارمة حيث وجه الشيخ زايد رحمه الله ببناء شعبية متكاملة بمرافقها لتخدم عشرين بيتاً تضاف إلى فرجان وشعبيات مدينة السمحة.
من حكمة زايد رحمه الله يتضح لنا كم كان حريصاً على توفير المأوى أولاً ثم أولاً وليس آخراً باعتباره الأساس الذي يحقق مفهوم الحياة الكريمة، وذلك واحد من القيم التي شكلت عنصرا جوهريا من رؤيته في العناية والاهتمام وبناء الإنسان وهذا من الدروس العظيمة التي استطاع من خلالها الشيخ زايد أن يبني هذه الدولة المباركة والتي تعكس مناسبة السادس من أغسطس التي نتذكرها اليوم كل القيم التي توارثها الأبناء ومضوا عليها.
في تلك المرحلة بعد استقرارنا في بيوتنا انتقلنا إلى مرحلة الدراسة في المدارس وتوفير وسائل النقل للطلاب مما يظهر حرصه رحمه الله على التعليم وعلاقته بأسس الحكم العظيمة لخلق مجتمع متعلم يجل العلم والعقل والمعرفة ويعطي أهميته وتقديره الكامل ويعززه في الإنسان حتى لا يغلب عليه الجهل لإيمانه بأن بالعلم تبنى الدول. وهذا درس من الدروس التي يمكن الإفادة منها في السادس من أغسطس والتي مضت عليها القيادة الحكيمة في الاهتمام بالعلم والمعرفة وإطلاق المشاريع حتى بلغت الإمارات المريخ.
إن يوم السادس من أغسطس هو يوم الوفاء ويوم السبق والتميز ويوم العقل والعلم ويوم الاستقرار والازدهار يوم حمل مشاعل النور في وجه الديجور ومازالت تفاصيل يوم استلام المنازل الجديدة راسخة في وجداننا وأرواحنا إلى يومنا هذا وما زلت أتذكر تلك الفرحة التي عمت العشرين عائلة التي استفادت منها.
ومن انتقال إلى انتقال يحن الإنسان إلى البيت الذي تشكلت فيه الطفولة الحقة والأحلام الغضة، في مرابع السمحة في البيت الذي استقرت طفولة إنساننا فيه ورغم الانتقال فيما بعد ثم ترحال ثم عودة إلى مدينة أبوظبي إلا أن ذلك الحنين بقي قابعاً في الروح لمدينة السمحة لفرجانها وشوارعها ومزارع النخيل فيها، سقى الله تلك الأيام، وهنا يحضرني قول أبي الطيب في أبياته الشهيرة:
لَكِ يا مَنازِلُ في القُلوبِ مَنازِلُ
أَقفَرتِ أَنتِ وَهُنَّ مِنكِ أَواهِلُ
يعلمنَ ذاك وما عَلِمتِ وإِنَّما
أَولاكُما يبكي عَلَيهِ العاقِلُ
إن الوطن بالنسبة لنا هو الولادة التي شكلت وعينا وحبّنا والموطن الذي اكتشفنا فيه الحياة وعرفنا فيه معنى العرفان للأرض والانتماء لها، والكتابة عن الوطن هو الكتابة عن كل ما له صلة بالشيخ زايد طيب الله ثراه وفي ذلك يملؤنا شعور الفخر والاعتزاز والمحبة لذلك القائد الذي لا يمكن وصفه في قصائد أو مقالات ولا تستوعبه كلمات، فمحبة الشيخ زايد خالدة رمزاً وقدوة ومثالاً فهو حكيم العرب، وهو مدرستنا التي نستلهم منها كل القيم الأصيلة النبيلة التي تجسدت في فكره وفلسفته ونظرته للحياة مؤمنين بقيمه الخالدة التي هي بمثابة قبس مضيء نسترشد به ونستجلي منه فكرة حاضرنا.
إن قيم الحكم التي عززها الشيخ زايد طيب الله ثراه هي خلاصة تجربة فريدة فيها من البعد التاريخي والشخصي والعالمي، إلا أنه قد أضاف بإبداع إلى تلك القيم جانباً كبيراً من صفات شخصيته القيادية التي جمعت بين الكاريزما العالمية والبداوة العربية الأصيلة وأضفى عليها من شخصيته الملهمة التي جمعت بين الأصالة والعصرنة والنزعة الإنسانية العالمية وترسيخ قيم الاتحاد والتعاون والتضامن، إضافة إلى تركيزه على تعليم الإنسان وعمله والاهتمام بصحته واستقراره.
إن شخصية الشيخ زايد تستحق منا مزيداً من الاهتمام بتوثيق ذاكرته المكانية ونقل فكره وتجربته الشعرية وتراثه الإنساني إلى الأجيال الحالية والقادمة وهو ما يفعله الشيخ محمد بن زايد رئيس الدولة حفظه الله وأبناؤه الكرام، لأن إرثه حي ينفع الإمارات وينفع الإنسان والبشرية جمعاء وفي الاطلاع على تجربته الشعرية العميقة وأقواله وخطاباته وفكره المضيء ما يؤكد أن نهجه ورؤيته تشكلان القواعد العلمية والعملية لنظم تقدم الإنسان ونهضة الدول والإمارات أصدق مثال على نجاح ذلك النهج الفريد وستبقى تعاليمه أحد أهم مكونات هوية الإنسان وثقافة المكان.
إن يوم السادس من أغسطس/آب هو يوم الوفاء ويوم الحكم ويوم الحكمة ويوم النهوض ويوم الانطلاقة الحقيقية ويوم إيذان بعصر النور والوصول والعزيمة والإرادة متقدة ما دام إرث الشيخ زايد طيب الله ثراه ملء القلوب والعقول والأرواح.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة