4 حكايات دامية من تفجيرات بغداد.. أشلاء ضحكات عمر وعلي تمزق الأب
عادة ما يعود الأب مع أولاده مساء كل يوم إلى المنزل بعد رحلة يوم شاقة مليئة بالصخب وصيحات باعة الملابس المستخدمة التي تعرف بـ"البالة".
واعتاد الشقيقان عمر وعلي مرافقة والديهما كل صباح، فيقومان بنشر بضاعتهم على بسطة تراكبت على شكل سرير حديدي عند سوق شعبي في ساحة الطيران، وسط العاصمة العراقية بغداد.
المزاح والنكتة حديث مستمر يخفت تارة، ويعلو أحيانا أخرى حتى يبلغ ذروته بين الأخوين، فيضطر والدهما أحياناً إلى التدخل لإيقاف مجرى الضحك وتوجيههما بضرورة الانشغال مع الزبائن الراغبين في الشراء.
يقول البعض إنهما كانا يشعران بأنهما على موعد مع حزن كبير، لذا كانا يحاولان تعويض ذلك عبر الاستمتاع بشبابهما بالتسالي والترويح عن النفس، أو ربما كانا يسعيان لزرع الابتسامة على شفاه والدهما تعويضاً عن فاجعة سوف يعيش معها إلى آخر حياته، إن عاش بعدها طويلاً.
كان الأب والشابين على موعد مع حزام ناسف، نسف حياة عمر وعلي وبدد حلم والدهما وهو ينتظر حصاد السنين في أن يكبرا يوماً بعد يوم على أمل أن يقيم حفلا لزواجهما معاً، فيجلس بعد ذلك ويرتاح من مشوار طويل في كنف ظلهما.
انفجر الحزام الناسف فأخطأ الموت الأب، واختار ولديه الشابين، اللذين كانا في العقد الثالث من العمر، فعاد إلى زوجته على غير العادة بنعشين خشبيين وصيحات نعي موزعة على الأحياء والأحبة، الذين ذرفوا الحسرة والدموع معاً.
كان الوالد في ذلك المساء يتقدم جنازة ولديه، وهي تقطع الطريق إلى فرع في حي شعبي، صارخاً بصوت كأنه قادم من السماء "ماتوا ولادي.. راح عمر وعلي".
مضى الشهيدان إلى بارئهما ظلماً وعدواناً، وضاعت على جثتيهما المقطعة مشاكسات الصبا وألاعيب الشباب، وذلك الزهو الذي انطفأ في عيني أمهما الثكلى، التي كتب عليها أن يموت أغلى ما تملك وهي على قيد الحياة.
وفي مشهد مأساوي آخر، عثر على كتاب مدرسي للمرحلة الابتدائية متناثر على قارعة الضحايا عقب انتهاء الانفجار، استبدلت صفحاته خطوط القلم الرصاص بالدم.
كان ذلك الكتاب يعود لصبي يعمل في مساعدة والده عند بسطة تقع في مقدمة السوق الشعبية لبيع الشاي.
يسعى مع توافر الفرصة ولحظات الاستراحة إلى مطالعة دروسه، ولم يكن يعلم أنه كان الدرس الأخير في فصل حياته.
يتشابه المشهدان، كلا الوالدين نجا من شظايا الموت الناسف، وخسرا أولادهما، فعاد والد الشابين إلى منزله بجنازتين، بينما عاد بائع الشاي لمنزله بجسد صبي مهشم وكتاب قراءة فتحت صفحاته على درس يقول: "من دق بابنا؟.. قدوري دق بابنا".
وفي زاوية أخرى من موقع الانفجار القاتل، كان هناك شاب جاء إلى السوق باحثاً عن حذاء رياضي، كي يكمل استعداداته لخوض مباراة في كرة القدم ستحضرها جماهير الحي والمناطق المجاورة.
وبعد الانفجار وانقشاع الغبار المغموس بروائح الدم والغدر، عثر على الحذاء الذي كان هذا الشاب قد تمكن من سعره بعد مفاوضات مضنية مع البائع، لكن الموت لم يسمح له بلمس الكرة، بعد أن تحول الشاب نفسه إلى هدف للإرهاب.
وحتى جثته، عادت ممزقة إلى المنزل دون أرجل، فنعاه أهله وعائلته وزملاؤه بفريق الحي المفجوع، الذين كانوا ينتظرون قبل ذلك تألقه في "مباراة الحسم".
في جانب آخر من فجيعة ساحة الطيران، ينتحب رجل ستيني بدت عليه آثار الفقر وعلامات العوز، أمام المدخل الأمامي لمستشفى الشيخ زايد في بغداد.
يفقد الرجل ثباته بالتعب أحياناً، كان بجانبه سرير طبي تمدد عليه شاب من المصابين بذلك التفجير، لكنه كان ممن كتب عليهم أن يتعايشوا مع جراحهم وإصاباتهم البالغة.
كان والد المصاب يستنجد بالفريق الطبي العامل بالمستشفى لتدارك ابنه والتعامل مع جراحه الظاهرة أعلى الرأس وجوانب من كتفه الأيسر، فيما كان يقترب منه شخص حاول طمأنته.
لم يستطع أغلب الذين مروا واقتربوا من ذلك الرجل من تخفيف توتره وفزعه، حتى فاجأ الجميع بقوله: "فقدت اثنين من الأبناء في انفجار قبل 10 أعوام، ولم يتبق لي سوى ذلك الممدد على السرير.. أرجوكم، احفظوا ذلك الشاب.. لا طاقة لي على خسارة ثالثة".
غداة ذلك اليوم الدامي، اجتمع أصحاب بسطات الملابس المستعملة من زملاء الضحايا في السوق الشعبية في الباب الشرقي، لنشر بضاعتهم المسجاة بالدم وفقدان الأحبة، لكن هذه المرة ليست للبيع، وإنما توزع على المارة كصدقة على أرواح الضحايا في تفجيرات "ساحة الطيران".