الإشكالية الحقيقية ليست نقد المخطط الراهن لأي طرح أمريكي أو إسرائيلي، وإنما العمل على مسارات واتجاهات بديلة في ظل رؤية أكثر واقعية.
تعكف الأطراف المختلفة أمريكيا وإسرائيليا وعربيا على الاستعداد للمشاركة في اجتماع المنامة في 25 يونيو الجاري، والواقع أن عقد المؤتمر في حد ذاته ينقل رسالة مهمة للأطراف المختلفة من قبل الإدارة الأمريكية، بأنها ما تزال جادة وساعية بالفعل للاستمرار في خطواتها نحو إقرار تسوية جديدة بصرف النظر عن الاسم أو الهدف، بل توقيت إطلاق المشروع الأمريكي المرتقب، وهو ما يؤكد أن هدف عقد المؤتمر الترتيب لخطوات أخرى لاحقة وليس فقط الاكتفاء بمقاربة المنامة أولا وأخيرا.
الإدارة الأمريكية تضع في أولوياتها الراهنة نجاح اجتماع المنامة، ودفع أكبر عدد من الدول للمشاركة في فعالياته، وهو ما يعني -وفقا للمنظور الأمريكي- نجاح الخطوة الأولى؛ حيث سيرتب آثارا جيدة يمكن البناء عليها لاحقا في الخطوة التالية، بصرف النظر عن تركيزه على المسار الاقتصادي
ومن ثم فإن التركيز على المؤتمر يأتي في سياق مخطط أمريكي لن يعلن في الوقت الراهن، وسيؤجل إلى نهاية شهر أكتوبر المقبل أي بعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية في سبتمبر المقبل، على أن يليها عدة أسابيع لتشكيل حكومة يمينية جديدة، ومن ثم لن تعرض الإدارة الأمريكية أي مشروع جديد قبل هذا الموعد بل في أعقابه، وهو ما يعني أن هناك تسليما أمريكيا بأن موعد إطلاق المشروع المرتقب لا يتعارض مع وجود طرف شريك من الجانب الإسرائيلي يمكن التفاهم معه وفي توقيت مهم للأطراف المختلفة، ومن ثم فإن مقاطعة "المنامة" ليس مقبولا بصرف النظر عن المخطط الفلسطيني الرسمي بمقاطعة الاجتماع، والدعوة رسميا لرفض فعالياته، على الرغم من وجود مخطط فلسطيني غير رسمي سيشارك من خلال وفد من كبار رجال الأعمال الفلسطينيين الذين يتعاملون مع المستوطنين ولهم أعمال ومشروعات مشتركة، ومن ثم فإن مشاركتهم ستعني قبولا بما يعرف بالسلام الاقتصادي إلى حين تحقيق مسار للسلام السياسي.
والواقع أن مؤتمر المنامة يشابه مؤتمرات عقدت في حقبة التسعينيات، وشارك فيها العرب وإسرائيل وجها لوجه ومنها الدار البيضاء (المغرب) 1994، وعمان (الأردن) 1995، والقاهرة (مصر) 1996، والدوحة (قطر) 1997، بهدف تكريس سياسة جديدة في العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل، وبتشجيع واضح من الولايات المتحدة التي دعت على لسان وزير خارجيتها وقتها وارن كريستوفر إلى الاستفادة من المؤتمرات الاقتصادية، من أجل ترجمة وعود السلام إلى مكاسب حقيقية من الممكن أن ترفع مستوى المواطن العادي، وعن طريق منح الأفراد والمجتمعات جانباً من فوائد السلام تمهد الطريق المصالحة الحقيقية بين الشعوب، ووقتها طُرحت أفكار عبر هذه المؤتمرات منها تشجيع الاستثمارات الإقليمية، وإتمام التبادل العالمي والتكنولوجي، وإقامة مؤسسات اقتصادية إقليمية، كبنك التنمية، وهيئة إقليمية للسياحة، وغرفة تجارية إقليمية ومجلس للأعمال تابعين للقطاع الخاص في دول المنطقة، وإنشاء لجنة توجيه تضم ممثلي الحكومات، وسكرتارية تنفيذية لمساعدة اللجنة التوجيهية يكون مقرها المغرب، إضافة إلى إقامة مشاريع تعاون مشتركة ثنائية ومتعددة الأطراف، وإشراك مؤسسات دولية في إنجاز مشروعات تتطلب استثمارات رأسمالية كبيرة، وتطبيق سياسة اقتصادية المجموعة الإقليمية تترافق مع إقامة مؤسسات إقليمية رسمية وتطويرها، كبنك التنمية التي أوصى به مؤتمر الدار البيضاء، ومع أن مؤتمر عمان وافق على أن تكون القاهرة مقر البنك، وأن يكون رأسماله خمسة مليارات دولار، وأن يكون رأسماله المدفوع ملياراً ومئتين وخمسين مليون دولار، إلا أنه لم ينفذ وأيضا تشكيل مجلس السياحة والسفر للشرق الأوسط والبحر المتوسط يكون مقره في تونس، بهدف تطوير قطاع السياحة في دول الشرق الأوسط، وإلى تحديث مطاري العقبة ورأس النقب بسيناء ليكونا مطارين دوليين، وتنفيذ مشروع لنقل الغاز الطبيعي من قطر لإسرائيل، وقدمت مصر على سبيل المثال في مؤتمر القاهرة 188 مشروعاً بقيمة 33 مليارا و550 مليون دولار، وقدمت إسرائيل 139 مشروعاً بقيمة 13 مليارا و350 مليون دولار، مقابل 218 مشروعاً بتكلفة 24.7 مليار كانت قد تقدمت بها إلى مؤتمر عمان وكان الهدف الرئيسي إحلال السلام الاقتصادي بما يتضمنه ذلك من إزالة للعوائق السياسية والاقتصادية وإحلال التنافس في الميادين التنموية والتعميرية محل الصدام العسكري وحرية انتقال السلع والخدمات وعناصر الإنتاج دون أي عوائق، سواء في إطار سوق مشتركة للشرق الأوسط أو في إطار سوق مشتركة لدول البحر المتوسط تتكون من السوق الأوروبية المشتركة والدول العربية المطلة على البحر المتوسط وإسرائيل مع التخطيط إعادة إحياء سكك حديد الحجاز التاريخية، وهو "المشروع الإقليمي"، في إشارة إلى المخطط الإسرائيلي لإحياء قطار الحجاز، وربط ميناء حيفا بالخليج العربي، عن طريق استكمال السكك الحديدية من بيسان إلى جسر الشيخ الحسين، وإكمال السكك الحديدية في الأردن لترتبط بالمنطقة، وإنشاء الطريق السريع المقترح، الذي يربط بلدان شمال أفريقيا بدءاً من الساحل الممتد من موريتانيا غرباً عبر المغرب والجزائر وتونس وليبيا إلى الإسكندرية والقاهرة ورفح وحيفا وطرابلس وطرطوس واللاذقية إلى ماردين وديار بكر في تركيا، وتتفرع من هذه الطريق عدة فروع منها وصلة تمتد إلى تبوك في شبه الجزيرة العربية، لتتصل بالطريق الدولي في منطقة الخليج وإقامة شبكة من خطوط الأنابيب لنقل النفط العربي والإيراني (مستقبلاً) إلى إسرائيل، ومن ثم إعادة تصديره إلى أوروبا وأمريكا وكندا وكذلك إقامة شبكة من خطوط نقل النفط إلى إيلات عبر خط يبدأ من رأس تنورة السعودي إلى العقبة/إيلات وخط من الكويت إلى العقبة/إيلات، وإعادة تشغيل خط التابلاين القديم القادم من العراق عبر سوريا إلى حيفا كما تقترح إسرائيل تطوير 3 طرق برية تربط مصر بإسرائيل عبر سيناء، وتحدد الطرق البرية التالية مع الأردن: طريق أسدود - القدس- عمان وطوله 170 كم، طريق حيفا- عمان- وطوله 260 كم، طريق غزة- أسدود- القدس- عمان.
والمعنى هنا.. أن كل ما تخطط له الإدارة الأمريكية الراهنة من مشروعات إقليمية انطلاقا من المنامة سبق أن طرح من قِبل في مراحل معينة، ومن ثم لا مبرر حقيقيا للتخوف من المخطط الأمريكي واعتبار مقاربة المنامة خطوة أولى وأخيرة، بل بالعكس ستكون هناك خطوات دافعة لترتيبات أخرى بصرف النظر عن الرهانات المطروحة بأن الإدارة الأمريكية ستكتفي فقط بالمقاربة الاقتصادية فقط، ولن تطرح أي خيارات سياسية حقيقية في الوقت الراهن أو اللاحق، لاعتبارات متعلقة بالإدارة، وانشغالها المتوقع بحدث الانتخابات الرئاسية الاستهلالية، والتي ستبدأ مع بدايات العام.
والواقع أن الإدارة الأمريكية تضع في أولوياتها الراهنة نجاح اجتماع المنامة ودفع أكبر عدد من الدول للمشاركة في فعالياته وهو ما يعني -وفقا للمنظور الأمريكي- نجاح الخطوة الأولى، حيث سيرتب آثارا جيدة يمكن البناء عليها لاحقا في الخطوة التالية بصرف النظر عن تركيزه على المسار الاقتصادي، ومشروعات التعاون الإقليمي وعدم تطرقه لمقاربات سياسية بالمعنى العام مع دراسة الشروع في تنفيذ بعض المشروعات الاقتصادية، والتي لا تحتاج إلى وقت كبير من يونيو الجاري -موعد اجتماع المنامة- إلى بدايات 2020 للتأكيد على جدية الطرح الأمريكي، وعدم إتاحة الفرصة لمزيد من التحفظات على الطرح الأمريكي، ووصمه بالعجز والفشل في ظل استمرار بعض التحفظات من دول عربية ومن السلطة الفلسطينية (توجد قائمة من المشروعات جاهزة للتنفيذ داخل الضفة الغربية وفي قطاع غزة، وهو ما سيبادر الجانب الأمريكي بطرحه والتركيز عليه).
ومع التقدير بأن فريق المفاوضين الأمريكيين يرون أن الرئيس ترامب -الذي أولاهم التخطيط والتنفيذ لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي- لم يتدخل في تفاصيله باستثناء تبنيه مواقف داعمة لإسرائيل (الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل-نقل السفارة الأمريكية للقدس) يتجه إلى عدم إصدار أي مشروع أيا كانت بنوده بدون مراجعة جيدة؛ حيث سيكون معرضا للرفض من قبل الأطراف المختلفة، ولهذا سيعمل الفريق التفاوضي الأمريكي انطلاقا من حسابات وتقديرات متعددة على أن تكون مقاربة المنامة الخطوة الأولى.
وفي كل الأحوال سيكون على الجانب العربي، وفي المقابل أن يبادر بطرح رؤية حقيقية من خلال تصور لشكل التعامل السياسي والاقتصادي، مع إعادة صياغة لبعض المواقف العربية بصورة مباشرة بعيدا عن تكرار الخطاب الإعلامي والسياسي المعتاد، خاصة أن إسرائيل تجدد طرحها ومشروعاتها بصورة كبيرة، ومن خلال جهد متراكم تبني عليه تصوراتها السياسية والاستراتيجية الحقيقية، وعبر دراسات مستفيضة يمكن الانطلاق منها عبر مخطط حقيقي من الواقع السياسي والاقتصادي معا، وهو ما سيكون مطروحا من قبل إسرائيل التي تتأهب من خلال تصور رسمي وغير رسمي يقوده الوزيران في حكومة نتنياهو الراهنة يسرائيل كاتس وموشييه كاحلون تحديدا.
ومن ثم فإن الإشكالية الحقيقية ليست نقد المخطط الراهن لأي طرح أمريكي أو إسرائيلي، وإنما العمل على مسارات واتجاهات بديلة وسيناريوهات مختلفة في ظل رؤية أكثر واقعية ووضوحا خاصة مع تكاملية ما يعرض، وعلى أن يتم من خلال ارتباط السلام الاقتصادي بالسلام السياسي مع التأكيد على أن المصالح العربية عامة والفلسطينية خاصة لا تنفصم أبدا، وأن المنطلق الحقيقي لبناء موقف عربي جامع بضرورة التصدي الحقيقي لأي طرح، وعدم الانسحاب من المشهد الراهن، وترك الساحة للجانب الإسرائيلي ليقرر أو يخطط أو أنه يسعى للتأكيد على أنه لا شريك حقيقيا يمكن التعامل معه، أو الدخول معه في شراكة حقيقية، وبالتالي فإن إعادة بناء الطرح السياسي والاقتصادي العربي لمواجهة المد الراهن نحو مقاربات اقتصادية أو سياسية يتطلب قراءة مستفيضة لما يجري على الجانب الآخر مع رصد ومتابعة وملاحقة وتكشف ما يرسم لمستقبل الشرق الأوسط والعالم العربي في القلب منه، وفي ظل مخططات تقوم بالأساس على أساس مصلحي، ونفعي للجانب الإسرائيلي.
وعلى الجانب الأمريكي أن يدرك أنه لا توجد أي مشكلات في أي تعاون إقليمي حقيقي بين العرب وإسرائيل، وأن العرب قدموا مبادرة عربية للسلام مع الجانب الإسرائيلي الذي لم يطرح رؤية أو مشروعا أو تصورا في ظل حالة من الضبابية المتعلقة بمواقف الأطراف الإسرائيلية التي ستدخل الائتلاف الحاكم ما بعد إجراء الانتخابات الجديدة، ومن ثم فإن على إسرائيل أن تبادر بالتجاوب مع الطرح العربي إن كانت جادة في هذا الإطار بدلا من الدوران في حلقة فراغ سياسي وأمني بل اقتصادي لن تقبله الدول العربية أصلا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة