مع انعقاد قمة العشرين، كأول اجتماع لزعماء المجموعة منذ بدء أزمة أوكرانيا، يُثار تساؤل بشأن ذهاب الأطراف المعنية نحو التفاوض.
لا سيما بعد ما جرى مؤخرًا في خيرسون م انسحاب روسي موجَّه تكتيكيا واستراتيجيا، والانتقال إلى مناطق التماس الاستراتيجية لتحقيق تمركز للقوات الروسية، في إشارة مهمة لا يمكن أن تغيب، وهي أن القوات الروسية قد تتراجع لتسمح بمزيد من الاختراقات في العمق الأوكراني.
ولعل عقد قمة العشرين -رغم كل ما نُوقش فيها من قضايا محل خلاف بين أعضائها- يشير إلي تطورات تعلن عن نفسها، منها استمرار حالة التوترات القائمة، والسعي للوصول إلى إجماع والتزام بين جميع أطراف القمة، حيث ظهرت مؤشرات لغياب الإجماع في عدد من الاجتماعات الوزارية، التي تسبق القمة، وغاب صدور البيان الختامي المشترك عن عدد من الاجتماعات الوزارية، كاجتماع وزراء البيئة والمُناخ أغسطس الماضي، بسبب اعتراضات على اللغة المستخدمة في الأهداف المُناخية، والحرب ضد أوكرانيا، ما دفع للتخوف من إمكانية تفكك المجموعة أو فشلها.. رغم الحاجة إلى بقائها كمنصة عالمية للتعاون الاقتصادي.
ثمة تطورات هامة جرت في القمة ترتبط بما يجري في مسارات الأزمة الأوكرانية-الروسية:
أولها اتفاق الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الصيني شي جين بينج، خلال القمة، على أنه لا ينبغي استخدام الأسلحة النووية إطلاقًا، بما يشمل أوكرانيا، مع تأكيد أن العالم كبير بما يكفي لازدهار كل من الولايات المتحدة والصين، وأن مصالح مشتركة كثيرة تجمع البلدين، ووجود نقاط توافق بينهما، ورغبة الولايات المتحدة في إنشاء قنوات اتصال بين المؤسستين العسكريتين في البلدين لتجنب وقوع حوادث أو تصعيد.
ثانيها تعدد قضايا القمة وتنوعها مع التركيز على مكافحة الفساد، والاقتصاد الرقمي، والطاقة المستدامة، والاستثمار، والتوظيف، والصحة، والبيئة، والتنمية، والتجارة، وأنظمة الدفع الرقمية، والتمويل المستدام، والشمول المالي، والضرائب الدولية.
وقد تزامن عقد فعاليات القمة وبداية إجراء اتصالات أمريكية روسية، أهمها اتصال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، ونظيره الأمريكي، لويد أوستن، ثم التواصل المعلن بين رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، الجنرال مارك ميلي، ونظيره الروسي، رئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف، وكذا عقد لقاء بين مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز، ونظيره الروسي سيرغي ناريشكين، في أنقرة، وتحذيرهما من عواقب استخدام أسلحة نووية، في إطار تفاهمات متعلقة بالثنائي في العلاقات حول الترتيبات الأمنية والاستراتيجية بشأن اتفاقية "ستارت الجديدة".
ثالثها: برغم تأكيد مصادر أمريكية أن قرار التفاوض يعود إلى أوكرانيا فقط -بعيدا عما يتردد من ضغوطات أوروبية وأمريكية لبدء مفاوضات رفضتها كييف واستمرت في المواجهة- واضح أن زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي، جاك سوليفان، لأوكرانيا قد حسمت كثيرًا من السياسات المعلّقة في ظل ضغط أمريكي للذهاب إلى المفاوضات في توقيت عاجل، تخوفا من "حرب روسية كاملة في أوكرانيا"، والذهاب إلى خيار "حرث الأرض" بالطريقة الروسية المعتادة.
ومن المؤكد أن مستشار الأمن القومي الأمريكي نقل هذه الرسالة للجانب الأوكراني، خاصة أن تداعيات ما قد يجري ستكون مؤثرة في كل النطاقات الأوروبية، التي يمكن أن تتضرر، وقد تكررت دعوات وقف إطلاق النار، وبدء الخِيار الدبلوماسي والتفاوضي من خلال رئيس أركان الجيش الأمريكي أيضا، مارك ميلي.
رابعها: ركزت الاتصالات الأمريكية في قمة العشرين على حشد المواقف والتوجهات، إضافة لتحديد نمط التحالف والشراكة الحقيقية، التي تعمل عليها في ظل واقع دولي يتشكّل، ومخاوف العمل على نظام متعدد الأقطاب -حسبما تدعو روسيا- وفي ظل تحرك صيني مدروس، وهو ما تخشاه واشنطن بالفعل، وحددته في إطار رؤية أمريكية وفق الاستراتيجية المعلنة، باعتبارها خصما حقيقيا يجب العمل معه وسط توازنات محددة ومهمة.
ورغم تأكيد أن الولايات المتحدة لا تمارس ضغطا على مواقف أوكرانيا، فلا تزال تُقدم لها الدعم العسكري "المحسوب"، الأمر الذي يشير إلى وجود مخطط أمريكي ظاهر يعمل في اتجاه محدد، ويتجه إلى دفع أوكرانيا للتفاوض، وأن الأمر ليس كما تصوِّره الولايات المتحدة على أنه "خلاف" داخل الإدارة الأمريكية بين القيادات السياسية في "البيت الأبيض" و"الخارجية" بصقورها، وبين وزارة الدفاع الأمريكية بقياداتها العسكرية.
خامسها: لا تزال التخوفات الأمريكية -كما اتضح من قمة العشرين- من تطلعات عسكرية كبيرة لروسيا في نطاقات الناتو، والتقييم المهم للاستخبارات المركزية، بأن روسيا لن تتخلي عن نزعتها العسكرية، وأن مقاربتها للأمن القومي الروسي ستتسع في الفترة المقبلة، وأنه يجب التحسب لكل هذه التحولات الجارية مع روسيا والصين، وينبغي العمل في اتجاهات حقيقية يمكن حسمها بصورة مباشرة، وأن تفاعلات ما بعد قمة العشرين ستحدد مسارا جديدا يمكن العمل عبره في ظل سياسات عامة لدولها، مع الأخذ في الاعتبار ما يتعلق بالأمن الأوروبي، أو المتطلبات الاقتصادية لدول العشرين، والتي لا تزال تتخوف من ارتدادات حقيقية على دولها مستقبلا، ويدفعها الأمر إلى محاولة التوصل إلى نقطة تلاقٍ حقيقي في الأزمة الروسية الأوكرانية.
كما ستظل الصين قريبة مما يجري في إطار مصالحها الكبيرة في بحر الصين الجنوبي، مثلما القوقاز هي مساحة الحركة الكبيرة لروسيا، وباعتبارهما "خطا أحمر" لكل طرف، ولا يمكن تجاوزه في إطار المعطيات الراهنة.
في المجمل، فإن قمة العشرين سترسم مسار التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية، بصرف النظر عن مسارات الأزمة واتجاهاتها الحالية، وستبقى كل من الصين والولايات المتحدة في واجهة ما سيجري حال بدء التفاوض بين الروس والأوكرانيين، مع استمرار الضغوطات الأوروبية، خاصة الفرنسية، لوقف المواجهات، ودعم الدخول في مفاوضات جدية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة