دخل مُتعالِم مسجداً وأخذ يناظر أحد الفقهاء، والناس يلتفون حولهما، كطبيعة البشر في التجمّع لأي حدث يثير فضولهم.
وما إن أُسْقِط في يد المتعالم الأجوف، وشعر بأنه سيفتضح لسطحيته، رفع صوته: «يا قوم، أتعلمون فيمَ نتناظَر؟»، فهزّوا رؤوسهم أنْ لا، فانتهز المتعالِم الفرصة وقال: «أنا منذ دخلت وأقول إن الصلوات خمس وهو يقول إنها سِت»، حينها ثارت ثائرة الناس وقاموا بضرب الفقيه وطرده من المسجد!.
تذكرت هذه الطُرفة وأنا أشاهد برنامجاً استضاف إحدى المدّعيات بتخصصها فيما يُعرَف بعلم الطاقة، وأجاد المذيع المحنّك في استدراجها بأسئلته، والتي كشفت عن سطحية لافتة وتكرار مُملّ لكل العبارات المعلّبة التي لا يستطيع مُسوّقو الطاقة فكاكاً منها، وافتعال البكاء في مواقف لا معنى للبكاء فيها، ولكنها طريقة مؤثرة للغاية في متابعيهم وخاصة من الفتيات المراهقات، ثم كانت الضربة القاضية عندما عرض لها مقطعاً لها عن كيفية شحن الطاقة بترداد حروف معينة، وفور شعورها بضحالة ما طرحت استشاطت غضباً وتهربت من أسئلته باختلاق معركة جانبية عن حقوق العرض!.
ما يُعرَف بالطاقة لن يكون علماً أبداً، فلا قوانين ولا نظريات تؤيدها الأدلة الحسية، ولو كانت علماً لرأيناها تُدرّس في الجامعات، لذا لن يغيّر في هذه الحقيقة شيئاً ادّعاءات المتكسّبين بها والذين وجدوا فيها الإوزة التي تبيض ذهباً بالضحك على الذقون والعبث بعقائد الناس وهم لا يعلمون، فها هو أحدهم يدّعي في كتابٍ له بأنّ الطاقة التي يمتلكها الإنسان «تكفي لإمداد مدينة كبرى بالطاقة لمدة أسبوع كامل، وأنّ متراً مربعاً من الطاقة كفيل بأن يبخر جميع محيطات العالم»!.
هذا المدّعي أتحداه أن يبخّر قوطي بيبسي بطاقته المزعومة ومقاييسها الزائفة، فهم لديهم أجهزة للقياس ولكن لا يستخدمون أجهزة الطاقة الكهربائية والكهرومغناطيسية وأمثالها، ولكن أجهزة «قياس الطاقة الكونية»، وقد فضحهم عدد من العلماء ببرنامج عُرِض على قناة ناشيونال جيوغرافيك وبيّنوا سبب تشكّل تلك الهالة على الإنسان باستخدام جهاز الطاقة المزعوم والتي يدّعون أنها ناتجة عن طاقة الإنسان، وبيّنوا أنّ الإشعاع الضوئي ينتج من الجهاز لا الإنسان، وللتأكيد على ذلك قاموا بوضع «مقص» أمام الجهاز فظهرت هالة طاقة له، ثم وضعوا حذاءً «وأنتم بكرامة» فتشكّلت له هالة هو الآخر!.
إن «بزنس» الطاقة التي يتكسّب بها البعض على حساب البسطاء، ويتم فيها تقديم بعض المصطلحات كالتشي والريكي والين واليانغ والكارما والشكرات، لن تؤدي بهم أبداً إلا لمزيد من الضياع والغرق في مستنقع العقائد الوثنية دون أن يعلموا، فالطاقة فلسفة نشأت في المعابد الطاوية والبوذية والهندوسية لغياب الدين السماوي القادر على توصيف العلاقة بين الخالق والمخلوق، فقامت هذه الفلسفات بطرح تصورات مشوّهة ومنحرفة للوجود والخالق والحياة، وقام أكثرها على مبدأ «وحدة الوجود»، أي أن كل ما في الوجود جاء من واحد، تستمد منه طاقتها وكينونتها، فسمّاها بعضهم البرانا والبعض سماها مانا وأصحاب الريكي أسموها كي!.
وحدة الوجود لديهم تدّعي لسد ثغراتها الكثيرة أنّ الكائنات فاضت من ذلك «الواحد الكل» والذي لا شكل له ولا بداية ولا نهاية، بشكل ثنائي متناقض، لكنه متناغم هما «الين» و«اليانغ» ولابد من تحقيق التناغم بينهما ليعود الكل واحداً ويتناغم الكون في وحدة واحدة، لا فرق بين خالق ومخلوق ولا بين إنسان وحيوان ونبات!.
الجدير بالذكر أن فلسفة «التشي» تُعطي ممارسها مرتبة الألوهية والقدرة على تدبير أمر الخلق، ومثلها بهذا العفن الفكري طاقة البرانا التي يصفها سوترا في كتابه البراهمان -أي الخالق- بأنّها: «أزلية بلا بداية ولا نهاية وهي موجودة قبل الوجود» وهي صفات لا تليق إلا بمقام الله سبحانه، ولو أسهبنا فلن نصل لنهاية من انحراف الطاقة والمشارب الفلسفية التي أتت منها، ولا يغيب عن بالي أحد المحاضرين فيها والذي انصدمتُ به أخيراً وقد كفر بكل الأديان، بل وقرأت أنّه ادّعى الألوهية ولديه أتباع وكأنّه يُسابِق بذلك الدجال!.
الطاقة ليست علماً ولكنها فلسفة منحرفة، ولا يُلمّعها إلا المتكسّبون والمتكسّبات بها، وإنّ الولوج فيها أكثر يجعل الإنسان دون أن يشعر ينسلخ من دينه شيئاً فشيئاً، وإنّ من يحاول الكذب على الذقون وادّعاء أن خلاص الإنسان من الضيق والاكتئاب والقلق يكون بجلسات القرفصاء والتركيز على الشكرات واجترار الطاقة كما يزعمون، يكفي عنها أن تفتح الباب الأقرب لله تعالى وتقول كما قال محمد صلى الله عليه وسلم: «أرِحْنا بها يا بلال» !.
نقلا عن صحيفة البيان الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة