مآسي الهجرة إلى الشمال.. حكايات من حدود بيلاروسيا
سافر كرمان محمد مع زوجته وأبناؤه الثلاثة إلى مينسك عاصمة بيلاروسيا "روسيا البيضاء" الشهر الماضي من شمال العراق، ودخلوها تحت ستار السياحة.
وتبين وثائق وروايات شهود أن أسرة محمد كانت ضمن آلاف حصلوا على تأشيرات سياحية في الشهور الأخيرة بمساعدة وكالات سفر في الشرق الأوسط تعمل من خلال شراكة مع شركات سياحية في بيلاروسيا.
لم تكد تمضي أيام على وصول الأسرة إلى مينسك حتى شقت طريقها إلى الحدود الفاصلة بين بيلاروسيا وبولندا لتنضم إلى موجة من العراقيين والسوريين والأفغان وغيرهم ممن يحاولون العبور المحفوف بالمخاطر، بل والقاتل في بعض الأحيان، إلى الاتحاد الأوروبي، تطلعا لبدء حياة جديدة.
وقال محمد، وهو يجلس في بيته بمدينة السليمانية في شمال العراق، الخميس الماضي،إن: "الطائرات تنقل السياح المتوجهين للسياحة".
وأضاف: "حكومة بيلاروسيا تعلم جيدا أن هؤلاء الناس ليسوا سياحا لكنهم ذاهبون إلى الحدود البولندية".
وصل محمد وأسرته إلى بولندا بالفعل لكنهم لم يمكثوا فيها سوى فترة قصيرة. فقد تم ترحيلهم إلى العراق يوم 31 أكتوبر/ تشرين أول لتصبح الأسرة دليلا حيا على أن إنفاق آلاف الدولارات والمخاطرة بالأرواح لا يضمن الاستقرار في الاتحاد الأوروبي، وفق وكالة رويترز.
ولم تستطع رويترز التحقق من صحة روايته.
أزمة تشعل توتر
وغذت أزمة المهاجرين التوترات بين الغرب وروسيا حليفة بيلاروسيا، وأرسلت موسكو قاذفات ذات قدرات نووية لكي تراقب سماء مينسك، فيما أعربت الدول المتاخمة لبيلاروسيا عن انزعاجها من احتمال تصاعد الأزمة إلى مواجهة عسكرية.
واتهم الاتحاد الأوروبي رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، بتدبير طوفان المهاجرين للضغط على الاتحاد بقصد التراجع عن عقوبات مفروضة على حكومته.
ونشرت بولندا وليتوانيا وثائق اطلعت عليها "رويترز"، تثبت أن شركة سفر واحدة على الأقل تملكها دولة بيلاروسيا سهلت للراغبين في الهجرة زيارة هذا البلد بدءا من شهر مايو/ أيار في حين رفعت شركة طيران تابعة للدولة عدد رحلاتها بأكثر من المثلين على مسار رائج يستخدمه الساعون للحصول على اللجوء.
وينفي لوكاشينكو تسهيل عمليات عبور المهاجرين، رغم أنه قال إنه لن يمنع المهاجرين بعد الآن بسبب العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي بعد انتخابات موضع نزاع أجريت في العام الماضي وحملة تضييق تبعتها على المحتجين.
وحاورت "رويترز" أكثر من 30 شخصا ما بين مهاجر أو راغب في الهجرة من الشرق الأوسط أثناء إعداد هذا التقرير في مدنهم الأصلية وعلى الحدود بين بيلاروسيا وبولندا وفي مراكز المهاجرين في بولندا.
ومن بين هذا العدد، حدد حوالي 20 فردا طبيعة التأشيرات التي سافروا بها وقالوا جميعا إنها تأشيرات سياحية. بينما أظهرت الوثائق التي نشرتها بولندا أن قرابة 200 عراقي حصلوا على دعم في إصدار التأشيرات من شركة سفريات تديرها الدولة في بيلاروسيا للسفر من أجل الصيد البري وأغراض أخرى.
وتحدث مهاجرون ووكلاء سفريات في العراق وتركيا عن السهولة النسبية التي حصلوا بها على وثائق للسفر إلى بيلاروسيا في الشهور الأخيرة.
ورغم التكلفة التي أوضح مهاجرون عراقيون أنها تراوحت بين 1250 و4000 دولار للوصول إلى مينسك، فقد أكمل الآلاف الرحلة بالحصول على التأشيرات بمساعدة شركات من بيلاروسيا واستقلال رحلات جوية تجارية بعد أن تزايدت وتيرة هذه الرحلات التي تنفذها شركة الطيران البيلاروسية، منذ فصل الربيع.
وساعدت في تحقق هذه الزيادة في أعداد المهاجرين وكالات سفريات وشركات صغيرة ومهربون وسائقون يسعون لتحقيق الاستفادة المالية وذلك وفقا لما قاله مسافرون متجهون إلى الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، أو وصلوا إليها بالفعل.
وقال عدد من المهاجرين قرب الحدود لرويترز إن حرس الحدود في بيلاروسيا ساعدوهم في العبور إلى بولندا أو غضوا الطرف عنهم وهم يحاولون العبور.
بل إن اثنين من المهاجرين قالا في لقاءين منفصلين إن حرس الحدود سلمهما أدوات لقطع الأسلاك.
ولم ترد السلطات في مينسك على طلبات للتعليق على الاتهامات الموجهة لها بأنها سهلت أزمة المهاجرين.
غير أن وزارة الخارجية في بيلاروسيا قالت اليوم الإثنين إن الاتهامات بأن مينسك دبرت الأزمة على حدودها مع الاتحاد الأوروبي "منافية للعقل".
ونقلت وكالة الإعلام الروسية عن الوزارة قولها إن بيلاروسيا شددت القيود على حدودها وإن شركة طيران بيلافيا المملوكة للدولة لم تنقل مهاجرين مخالفين للقوانين.
طريق أكثر أمنا إلى أوروبا
وقال معظم المهاجرين الذين حاورتهم رويترز إنهم قاموا بالرحلة لأنهم لا يرون لأنفسهم أو لأولادهم مستقبلا سواء في سوريا أو في العراق. وأوضح عدد قليل منهم إنهم يحاولون دخول الاتحاد الأوروبي للحاق بأصدقاء أو أقارب سبقوهم إليه.
ورأى المهاجرون فرصة للوصول إلى أوروبا برا بدلا من الرحلة البحرية المحفوفة بالمخاطر لاسيما عند السفر مع أطفال صغار، بعد أن قرأ هؤلاء على وسائل التواصل الاجتماعي أن التأشيرات أصبحت متاحة بسهولة، ثم عرض وسطاء ووكلاء خدماتهم عليهم.
ومن بين هؤلاء الوسطاء، حسين الأصيل العراقي المقيم في أنقرة الذي يوفر خدمات السفر للراغبين من السياح والمهاجرين.
قال الأصيل إنه رتب دعوات لزبائنه من ثلاثة شركاء في بيلاروسيا وتولى استخراج تأشيرات على جوازات سفر مرسلة من العراق. وبمجرد عودة الجوازات أصبح بإمكان أصحابها السفر إلى مينسك عن طريق تركيا.
ويقول الأصيل إن حصول العراقيين على تأشيرات سفر إلى بيلاروسيا قبل العام الحالي كان أصعب بكثير.
ويتابع أنه تقاضى 1250 دولارا عن الفرد الواحد، وزعم أن ذلك يجعل منه واحدا من أرخص وكلاء السفر.
وأضاف أن سفارة بيلاروسيا "بالطبع تعلم أن هذا الشخص ليس ذاهبا للسياحة.. أي نوع من السياحة هذا الذي يحجز فيه المرء تذكرة طائرة مقابل 800 دولار ويحصل على تأشيرة مقابل 1250 دولارا؟ هم يعلمون أن هؤلاء الناس قادمون للذهاب إلى أوروبا".
وازدادت وتيرة الرحلات الجوية إلى مينسك خلال فصل الربيع، فعلى سبيل المثال سيّرت شركة بيلافيا 28 رحلة من اسطنبول إلى مينسك خلال فبراير/ شباط الماضي و31 رحلة خلال مارس/ آذار.
وبحلول يوليو/تموز، تجاوز عدد الرحلات المثلين ووصل إلى 65 رحلة وذلك وفقا لبيانات موقع فلايت رادار 24 الإلكتروني لرصد الرحلات الجوية.
وتحرك الاتحاد الأوروبي للتصدي لهذه الموجة، ووسط ضغوط من بروكسل أوقفت بغداد الرحلات الجوية من العراق إلى مينسك خلال الخريف.
ويوم الجمعة، أكدت شركتا بيلافيا والخطوط الجوية التركية أنهما ستتوقفان عن نقل المسافرين من اليمن والعراق وسوريا إلى مينسك باستثناء الدبلوماسيين.
ويوم السبت الماضي، قالت شركة أجنحة الشام للطيران، وهي شركة سورية خاصة، لرويترز إنها ستتوقف عن تسيير رحلات إلى مينسك.
وتيرة متزايدة
ما إن يصل المهاجرون إلى مينسك، حتى يسارع أغلبهم بالانتقال إلى منطقة الحدود مع بولندا تمهيدا لدخول الاتحاد الأوروبي.
وقال سكان منطقة الحدود إنهم رصدوا زيادة كبيرة في أعداد مسافرين ذوي ملامح شرق أوسطية ينتظرون في مراكز تجارية أو ينامون على مقاعد أو يشترون مؤنا لمواصلة رحلتهم.
فيما قال بعض المهاجرين الذين وصلوا إلى بولندا إنهم تعرضوا للضرب على أيدي حرس الحدود في بيلاروسيا الذين طاردوهم عبر منطقة الحدود. وواجه هؤلاء الإرهاق والجوع والعطش والخوف.
ولم ترد سلطات بيلاروسيا على الفور على طلب للتعليق على هذه الاتهامات.
وقالت عراقية تبلغ من العمر 26 عاما اسمها أم ملك ستلد طفلها بعد 13 أسبوعا لرويترز إنها وأسرتها حولوا مسارهم بين بولندا وبيلاروسيا ست مرات قبل الوصول إلى مركز للمهاجرين في مدينة بياليستوك البولندية.
وتابعت أنها وزوجها وبناتهما الثلاث خاضوا في مياه يصل ارتفاعها إلى الصدر واختبأوا في غابات وسط البرد.
بدوره، قال متحدث باسم الشرطة البولندية إن الشرطة لم تنفذ أي عمليات مثل إعادة المهاجرين إلى الحدود.
ولم يرد حرس الحدود البولندي والسلطات في بيلاروسيا على طلبات للتعليق على ما قالته أم ملك.
وربما تعتبر أم ملك نفسها محظوظة، فعدد كبير من المهاجرين لا يتمكنون من الوصول إلى الاتحاد الأوروبي ويجبرون على محاولة العودة إلى مينسك ويضطرون في بعض الأحيان لدفع رشوة في سبيل العودة إلى وطنهم.
"كل يوم أصدقاء يرحلون"
وتوفي ثمانية أشخاص على الأقل من المهاجرين في محاولات العبور إلى داخل الاتحاد الأوروبي، وتتزايد المخاوف على سلامة الآخرين مع اقتراب الظروف الجوية الشتوية القاسية.
ورغم تضييق الخناق على الرحلات الجوية من الشرق الأوسط إلى مينسك، قال فابريس ليتجيري مدير وكالة الحدود بالاتحاد الأوروبي (فرونتكس) يوم الجمعة إن على الاتحاد الاستعداد لزيادة في أعداد المهاجرين الذين يحاولون دخوله.
لكن الأعداد زادت بالفعل، إذ قالت حرس الحدود البولندية إن أكثر من 17 ألف محاولة لعبور الحدود خلسة وقعت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أي أكثر من مثلي المحاولات التي حدثت في سبتمبر/ أيلول، مضيفة أن آلاف المهاجرين ينتظرون بالقرب من حدود بيلاروسيا مع بولندا.
وفي شمال العراق، قال الحلاق ورزار إبراهيم إن عشرات من مدينته رحلوا عن إقليم كردستان في شمال العراق قاصدين بيلاروسيا في الأسابيع الأخيرة.
وقال إبراهيم (37 عاما) وهو أب لاثنين من الأطفال إنه قرر الانضمام إلى المسافرين.
وأضاف: "عندي طفلة في الثامنة ولا يمكنها الكتابة. لماذا؟ لأن المدرسة ليست جيدة. وبوسعي أن أرى أن حياة أطفالي لا تبدو مقبولة".
وتابع: "أرى الصور كل يوم لأشخاص في الغابة لكني لست خائفا. المصاعب في بيلاروسيا مؤقتة. أسبوع أو أسبوعان. لكنها هنا موجودة كل يوم".
وقالت حكومة إقليم كردستان العراق لرويترز إنها تحقق مع وكلاء السفر المحليين المتورطين في هذا النزوح وحملت الساسة والمهربين مسؤولية تفاقم الأزمة.
وقال إبراهيم إنه دفع 1600 دولار عن كل فرد في أسرته المكونة من أربعة أفراد للذهاب إلى مينسك.
وأضاف إبراهيم "كل يوم تجد صديقا مقربا يرحل. يعرف كل منكما الآخر منذ 20 عاما ثم يرحل إلى بيلاروسيا ولا تعرف ماذا سيحدث له. وهذا صعب. لكني أقول مع ذلك سأذهب. وأنا راحل لأن الوضع هناك أفضل من هنا".
الأكثر من ذلك، قال بعض الراغبين في الهجرة إنهم باعوا أرضا أو بيوتا لسداد تكاليف السفر والفنادق وعمولات المهربين والرشوة.
aXA6IDMuMTQ0LjQyLjE3NCA= جزيرة ام اند امز