مؤتمر برلين لحلحلة الأزمة الليبية.. الفرص والعقبات
نجاح الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن في تعزيز ضغوطها على الجانب التركي من شأنه أن يتناسب طرديا مع إمكانية نجاح مؤتمر برلين.
أعلنت الحكومة الألمانية انعقاد مؤتمر برلين 19 يناير/كانون الثاني الجاري بحضور الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين إلى جانب إيطاليا والإمارات ومصر والجزائر والكونغو وتركيا.
وأوضحت الحكومة الألمانية أن اللقاء سيكون على مستوى زعماء الدول، وذلك بعد تشاور مع الأمين العام للأمم المتحدة، فيما تُعوّل القوى الدولية البارزة والقوى الإقليمية الفاعلة على إمكانية أن يكون مؤتمر برلين الخطوة الأولى نحو حلحلة الأزمة الليبية بعد أكثر من تسع سنوات من تفاقم الصراع.
عقبات متعددة
يرتبط نجاح مؤتمر برلين في التوصل لحلول ناجزة للأزمة الليبية، بالعديد من العقبات، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
- تسليم أسلحة المليشيات: تعد تلك المسألة جوهرية في إطار التوصل لأي حلول سياسية ناجعة، خاصةً وأن تلك المليشيات تعد هي السبب الرئيسي في تصاعد حدة عدم الاستقرار الأمني والسياسي في العاصمة طرابلس، في ظل سيطرتهم على صناعة القرار السياسي وتهميش رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، جنباً إلى جنب مع ما يرتبط بذلك من رغبة حثيثة للجيش الوطني الليبي في عودة المقاتلين الأجانب والإرهابيين الذين أرسلتهم تركيا من حيث أتوا، وهو ما يُقابَل برفض من جانب حكومة الوفاق بإيعازٍ من أنقرة.
وكانت صحيفة الجارديان البريطانية قد كشفت في تقرير لها بتاريخ 15 يناير/كانون الثاني الجاري عن قيام تركيا بتجهيز نحو ألفيّ مسلح سوري من أجل إرسالهم إلى ليبيا بعد توقيع عقود معهم بمقابل مادي كبير للقتال إلى جانب مليشيات حكومة الوفاق.
وقد حصل المقاتلون على تدريب في معسكرات داخل الأراضي التركية، وهو ما لا ينكره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أقرّ بإرسال قوات إلى ليبيا.
وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان قد ذكر أيضا في 9 يناير/كانون الثاني الجاري أن نحو 260 مقاتلا من بينهم ضابط برتبة نقيب من الفصائل الموالية لتركيا قد توجهوا للقتال إلى جانب مليشيات طرابلس ضد قوات الجيش الوطني الليبي.
- سياسة الأمر الواقع التركية: تحاول أنقرة فرض سياسة الأمر الواقع عبر انخراطها العسكري في الصراع الليبي، وهو ما قُوبل باستهجان شديد من جانب جميع الأطراف الدولية وأغلب الأطراف الإقليمية، في محاولة من أنقرة لخلق دور لها في الأزمة الليبية في إطار سعيها للوجود في جنوب المتوسط والشمال الأفريقي.
ويُعد الموقف التركي هو أحد العقبات الرئيسية أمام أي فرص حقيقية للتسوية السياسية في ليبيا، خاصةً وأن أنقرة كانت هي السبب الرئيسي في فشل محادثات موسكو بشأن الأزمة الليبية في ضوء اعتراض قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر ورئيس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح على وجود تركيا كطرف وسيط في تلك المحادثات كونها طرفا منخرطا عسكرياً مع حكومة الوفاق بما يفقدها الحياد المطلوب لأداء دور الوساطة.
- الأحقية بتولي قيادة القوات المسلحة الليبية: حيث إن رئيس حكومة الوفاق فايز السراج يُصر بإيعازٍ تركي على التمسك بمنصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، في محاولة لتحييد المشير حفتر، وما يرتبط بذلك من إمكانية قيام السراج بشرعنة المليشيات والإرهابيين في العاصمة طرابلس عبر إدماجهم في الجيش النظامي الذي يأمل في تكوينه من أجل انتزاع ورقة الضغط الرئيسية في يد حفتر كونه قائد الجيش النظامي الوحيد في البلاد والذي يحظى بدعم من مجلس النواب الليبي (شرق ليبيا).
- رفض انسحاب الجيش من تمركزاته: تمكن الجيش الوطني الليبي في تحقيق نجاحات بارزة منذ أبريل/نيسان عام 2019 خاصةً عقب تحرير مدينة سرت من قبضة المليشيات جنباً إلى جنب مع التقدم الميداني الناجح باتجاه شرق مصراتة تزامناً مع تقدم الجيش باتجاه قلب العاصمة طرابلس.
وهي تمركزات تجعل مليشيات الوفاق محاصرة بشكلٍ كامل من جانب الجيش الوطني المسيطر على أغلب الأراضي الليبية، ويعتبر الجيش بقيادة حفتر أن الانسحاب من تلك التمركزات مرفوض تماماً، وهو ما قد تحاول حكومة الوفاق توظيفه من أجل ممارسة ضغوط دولية على الجيش للانسحاب إلى مواقعه وثكناته إلى ما قبل أبريل/نيسان الماضي.
فرص قائمة
على الرغم من تلك العقبات الجوهرية التي يمكن أن تعوق نجاح مؤتمر برلين في بلورة تسوية سياسية ناجزة؛ فإن هناك العديد من الفرص القائمة أمام تحقيق نجاح ولو نسبي في سبيل حلحلة الأزمة، وذلك على النحو التالي:
- تمثيل الدول الخمس دائمة العضوية: حيث إن تمثيل تلك الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي يمثل قوة دفع مهمة في سبيل إنجاح مؤتمر برلين في الخروج ببعض التوصيات الناجحة لا سيما عقب فشل روسيا بمفردها في إتمام توافق بين طرفي الصراع الرئيسيين.
كذلك فإن تلك الدول الخمس لديها القدرة على أن تكون ضامنة لإتمام عملية وقف إطلاق النار وتثبيته إلى جانب تسليم أسلحة المليشيات، في ظل توافق الدول الخمس على رفض شرعنتها، ونجاح القوى في ذلك يرتبط بقدراتها على الضغط الفاعل على أنقرة من أجل إيقاف إرسال المقاتلين، إلى جانب الضغط على حكومة الوفاق للخروج من العباءة المليشياوية.
- توظيف التوافق الأوروبي: حيث إن تصاعد حدة عسكرة الصراع الليبي أدى إلى تحول مهم في المواقف الأوروبية، من مرحلة الصراع والصدام وصولاً إلى مرحلة التفاهمات المشتركة وتجاوز الخلافات.
وتجلّى التوافق الأوروبي في مواقف إيطاليا وفرنسا بشكل رئيسي، حيث إن الدولتين منذ إعلان ألمانيا دعوتها لعقد مؤتمر دولي بشأن الأزمة الليبية، فقد قاما بتجاوز خلافاتهما والبحث عن مساحات مشتركة للتفاهم، خاصةً عقب قيام تركيا بتوقيع مذكرتيّ تفاهم مع حكومة الوفاق في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، حيث انتقدت الدولتان بشدة تلك المذكرتين معتبرتين أنهما يؤججان الصراع ليس في ليبيا وحدها ولكن في شرق المتوسط أيضاً، وهو ما أحدث تحول نوعي في وقف إيطاليا من "الدعم المطلق" لحكومة الوفاق إلى "الدعم الهش" مع قناعة إيطالية أكبر بأهمية الجيش الوطني الليبي كونه قادر على تحجيم المخاطر الإرهابية في البلاد وتوحيدها.
ويمكن توظيف ذلك التوافق الأوروبي "النادر" بشأن الأزمة الليبية من أجل إنجاح مؤتمر برلين خاصةً في ظل التخوفات الأوروبية من الأطماع التركية في شرق المتوسط لاسيما بعد إعلان أردوغان في 16 يناير/كانون الثاني الجاري اعتزامه إصدار تراخيص للمناطق البحرية المشمولة في الاتفاق مع ليبيا، والبدء بأعمال التنقيب خلال العام الجاري.
- إعادة الاعتبار لمجلس النواب الليبي: حيث يمثل مجلس النواب برئاسة المستشار عقيلة صالح المرتكز الرئيسي لأي شرعية سياسية محتملة في ليبيا كون المجلس هو الطرف الليبي الوحيد المنتخب والحاصل على إرادة شعبية ليبية، وقد يقوم المجلس بدعم دولي وإقليمي وبرعاية أممية بتشكيل حكومة وطنية جديدة، وتفكيك المجلس الأعلى للدولة؛ وهو جهة استشارية تسيطر عليها جماعة الإخوان بقيادة الإخواني خالد المشري.
بيد أن النجاح في تحقيق ذلك مرتبط بنجاح المؤتمر في الضغط على حكومة الوفاق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في مقابل دخول الجيش بشكل سلمي لمصراتة وطرابلس كونه الجيش النظامي القادر على ضبط المسألة الأمنية في البلاد.
- منح الفرصة لشخصيات سياسية وطنية: حيث إنه يمكن على المستوى السياسي تصعيد شخصيات وطنية غير منخرطة في العنف المسلح، والمشهود لها بالخبرة والكفاءة، من أجل أداء دور سياسي بارز في المرحلة المقبلة في الداخل الليبي.
ولعلّ من أبرز تلك الشخصيات الأكاديمي والدبلوماسي الليبي عارف النايض الذي لديه رؤية سياسية مستقبلية تجاه تكريس الاستقرار في ليبيا.
وكان النايض قد عبّر عن مشروعه السياسي تحت عنوان "رؤية إحياء ليبيا 2023" في مؤتمر صحفي في أواخر عام 2018، ويرتكز المشروع على 4 أسس رئيسية هي: السلام والأمن وسيادة القانون، التنمية الاقتصادية، التنمية البشرية والإدارة الرشيدة، وإصلاح القطاع العام.
وفي المجمل، فإن مؤتمر برلين لن يخلق واقع سياسي وأمني جديد في ليبيا في وقت قريب خاصةً في ظل احتمالات تعنُّت حكومة الوفاق بإيعازٍ تركي فيما يتعلق بطرد المقاتلين الأجانب الموالين لتركيا أو حتى تسليم أسلحة المليشيات.
لكن ذلك التعنّت من شأنه أن يُوسّع من دائرة القبول الدولي والإقليمي لقائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر خاصةً في ظل توافق الرؤى الدولية والإقليمية باستثناء تركيا حول ضرورة تحييد المليشيات كخطوة أولى نحو تثبيت إيقاف فعلي لإطلاق النار وبدء مرحلة انتقالية برعاية أممية، مع التأكيد على أن نجاح الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن في تعزيز ضغوطها على الجانب التركي من شأنه أن يتناسب طردياً مع إمكانية نجاح مؤتمر برلين في التوصل إلى حلول سياسية يتمخض عنها حلحلة الأزمة الليبية في المديين المنظور والمتوسط.
*باحث متخصص في الشأن الإقليمي.