أنفاق وبالونات وطائرات.. أغرب قصص الهروب من جدار برلين

عندما أُغلقت الحدود بين شطري برلين فجأة في 13 أغسطس/آب 1961، تحوّل حلم الوصول إلى الحرية إلى كابوس يومي للألمان الشرقيين.
لم يكن الجدار مجرد حاجزٍ خرسانيّ، بل تحوّل إلى رمز للقمع والانقسام في ذروة الحرب الباردة.
فخلال الأسابيع الأولى بعد غلق الحدود، حاول الألمان الشرقيون استغلال الثغرات في الحاجز المؤقت، الذي كان مجرد أسلاك شائكة وحواجز خشبية، بحسب تقرير لموقع قناة "هيستوري".
كانت المباني المطلة على الحدود، نقاطًا ساخنة للهروب؛ حيث كان السكان يتسلقون النوافذ أو يقفزون من الأسطح بمساعدة سكان الغرب الذين يمدون الحبال والبطاطين.. لكن السلطات في الجانب الشرقي سرعان ما أدركت الخطر، فقامت بإخلاء تلك المباني وإغلاقها بالطوب، لتبدأ مرحلة جديدة من التعزيزات.
بحلول عام 1962، اكتمل بناء الجدار الدائم وهو عبارة عن جدارين من الخرسانة بارتفاع 3.6 متر، يفصل بينهما شريط رملي بعرض 100 متر يُعرف بـ"منطقة الموت"، مليء بالأسلاك الشائكة المُكهربة، والألغام المضادة للأفراد، وأبراج المراقبة والجنود المسلحين الذين تلقوا أوامر بإطلاق النار على أي حركة مشبوهة.
ولم تكن هذه المنطقة مجرد حاجز مادي، بل آلة قمع نفسي هدفها ترويع السكان وكسر إرادتهم.
مغامرات فردية: حين يصبح اليأس بطولة
في 15 أغسطس/آب 1961، وبعد يومين فقط من بدء بناء الجدار، وقف الحارس الشاب ذو الـ19 عامًا، كونراد شومان، في نقطة مراقبة بينما كانت كاميرات المصورين الغربيين تُتابعه.
وعلى نحو مفاجئ، ألقى بسيجارته جانبًا، وركض بجنون نحو الأسلاك الشائكة، قافزًا فوقها بزيّه العسكري لتتحول الصورة التي التُقطت له وهو في منتصف القفزة إلى أيقونة عالمية لصراع الإنسان ضد القيود.
وفي ديسمبر/كانون الأول 1961 استغل المهندس الميكانيكي هاري ديترلينغ خبرته في تشغيل القطارات، فسرق قاطرة بخارية من مصنع مهجور، واخترق بها الحاجز الأخير الفاصل بين برلين الشرقية والغربية، حاملًا 25 راكبًا من أصدقائه وعائلته.
وصلت القاطرة إلى الغرب بينما كانت عجلاتها تنفجر من شدة السرعة، مما دفع السلطات في برلين الشرقية إلى إعادة تصميم مسارات القطارات بشكلٍ مُعقّد.
كانت العملية الأكثر إثارة هي التي نفذها الجندي السابق في الجيش الشرقي وولفغانغ إنجيلز في 1963 عندما استولى على دبابة من ثكنة عسكرية وحاول تحطيم الجدار بها، لكن الأسلاك الشائكة التفّت حول الجنزير المعدني، مما أوقف الدبابة.
وأُصيب إنجيلز برصاصتين أثناء هروبه، لكنه تمكن من الوصول إلى الغرب بمساعدة سكان محليين أخفوه في شقة حتى تعافى.
الأنفاق: حروب الظل تحت الأرض
تحوّلت الأنفاق إلى وسيلة جماعية للهروب، رغم خطورتها الهندسية والسياسية. كان أشهرها "نفق NBC" عام 1962، الذي حفره مجموعة من الطلاب الغربيين بتمويلٍ سري من الشبكة الإخبارية الأمريكية، التي وعدتهم بتغطية الهروب في فيلم وثائقي.
امتد النفق لـ40 مترًا تحت مصنع مهجور، واستغرق حفره 6 أشهر، ونجح 29 شخصًا في العبور قبل أن تكتشفه الشرطة السرية، بينما أُجّل بث الفيلم بسبب أزمة الصواريخ الكوبية، كي لا تُثار حساسيات دولية.
لكن أنجح الأنفاق كان "نفق 57" عام 1964، الذي حفره طلاب غربيون بمشاركة مهندسين من الشرق. امتد النفق لـ145 مترًا، وتميز بتركيب نظام تهوية وإضاءة كهربائية. خلال 48 ساعة فقط، تدفق عبره 57 شخصًا، بينهم أطفال حملهم آباؤهم على الأكتاف خوفًا من الغرق في المياه الجوفية.
وأصيب جهاز الـ"شتازي" بالذعر بعد هذه الحادثة، فبدأ في دفن أجهزة استشعار الزلازل على طول الحدود، وتجنيد جيش من المخبرين للإبلاغ عن أي نشاط حفر.
هروب بلا حدود: عندما يتفوق الخيال على الخرسانة
في شتاء 1966، سبح الشاب هارتموت ريختر عبر قناة "تيلتو" المتجمدة لمدة 4 ساعات، بينما كانت دوريات الحدود تطلق أضواء كاشفة على المياه.
أما هورست كلاين، البهلوان السابق فاستغل في 1963 مهارته في السير على الحبال، فمدّ حبلًا فولاذيًا بين مبنيين على جانبي الحدود، وانزلق عليه بيديه العاريتين تحت جنح الظلام.
وفي 1988، صنع الأخوان أخوان بيثكه طائرة شراعية خفيفة من أجزاء دراجات نارية وأقمشة سرية، وحلّقا من فوق الجدار في ليلة ماطرة، ليكتبا فصلًا خياليًّا في سجل الهروب.
الثمن الدامي: أرقام لا تُحصى المعاناة
تشير سجلات "ذكرى جدار برلين" إلى مقتل 140 شخصًا على الأقل أثناء محاولات العبور، بينهم 8 أطفال.. بعضهم قُتل برصاص الحراس، وآخرون ماتوا صعقا بالكهرباءً أو غرقًا.
لكن الرقم الحقيقي قد يكون أعلى، فالكثير من الحوادث طُمسَت لأسباب سياسية.. كما سُجلت حالات انتحار جماعي لعائلات رفضت العيش في الظل، مثل عائلة "فيتز" التي أحرقت نفسها في شقتها عام 1978 بعد رفض طلبها بالسفر.
بحلول عام 1989، تحوّل السخط الشعبي إلى ثورة سلمية. وفي 9 نوفمبر/تشرين الثاني، أعلن مسؤول شرقي بشكلٍ مُربك أن الحدود مفتوحة، فاجتاحت الجموع الغوغائية نقاط التفتيش، وصعد المتسلقون إلى قمة الجدار يحملون المطارق، بينما كانت دبابات الجيش الشرقي تتراجع بأمرٍ من القيادة.
وكانت عائلة شبيتزنر آخر من هرب عبر الجدار قبل ساعات من الانهيار، مستخدمة بالونًا هوائيًّا محلي الصنع.
واليوم، تحوّل جدار برلين إلى قطعٍ صغيرة مُبعثرة في المتاحف، تذكّر العالم بأن أي حاجزٍ من صنع البشر يمكن أن ينهار إذا توحدت الإرادة.. فخلف كل حجرٍ منه، كانت هناك قصة إنسان رفض أن يكون رقمًا في معادلة الحرب الباردة.
aXA6IDMuMTQ4LjI1MC4yMDIg جزيرة ام اند امز