لم يعد "التنبؤ" أو "الاستشراف" واقعا في يد السحرة أو الكهنة أو أصحاب العيون البصيرة التي تخترق حجب الألغاز.
ما زال فيضان التوقعات وفيراً بشأن العام الذي سيبزغ صباحه بعد ثلاثة أيام، وذلك من ناحية يسد جزءاً من الرغبات الإنسانية في استشراف ما سوف يأتي؛ ومن ناحية أخرى فإنه لا يفعل أكثر من مد منحنى الأحداث الذي تجلى خلال العام الذي يوشك على الأفول إلى العام المقبل؛ ومن ناحية ثالثة فإن هناك الكثير من الهموم الإنسانية المستمرة، التي لا بأس من استخدام فرصة قدوم عام جديد للتذكير بها والإلحاح على السعي في طريق حلها.
لم يعد "التنبؤ" أو "الاستشراف" واقعاً في يد السحرة أو الكهنة أو أصحاب العيون البصيرة التي تخترق حجب الألغاز والأحجية إلى ما سوف يحدث في الطبيعة أو حتى ما وراءها أيضاً. هذه المهمة باتت واقعة في يد مراكز البحوث والتقارير الدولية.
فلا يوجد إبداع كثير، على سبيل المثال، وقد تردد خلال الأسابيع الأخيرة من عام ٢٠١٩ عن قرب توقيع المرحلة الأولى من حل النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين، أن يكون ذلك هو الحدث الأول في العام الجديد، ولا بأس بعدها إعلان نهاية "الحرب الباردة" بين بكين وواشنطن بكل ما يترتب على ذلك من نتائج وتغيرات. وكما هو معلوم فإن هناك تهديدات مستمرة لبقاء الجنس البشري أبرزها إمكانية نشوب "الحروب السيبرانية" التي تضخمت احتمالاتها مع التكثيف الحادث لما سمي "إنترنت الأشياء"؛ ولا يمكن غض البصر عن "الاحتباس الحراري" الذي بات مسؤولاً عن زلازل وأعاصير وموجات حرارة وبرودة، وحتى الحرائق الأخيرة في أستراليا في جنوب الكرة الأرضية لا يمكن فصلها عما يجري من تغيرات سائلة في جليد القطب الشمالي.
لم يعد "التنبؤ" أو "الاستشراف" واقعاً في يد السحرة أو الكهنة أو أصحاب العيون البصيرة التي تخترق حجب الألغاز والأحجية إلى ما سوف يحدث في الطبيعة أو حتى ما وراءها أيضاً. هذه المهمة باتت واقعة في يد مراكز البحوث والتقارير الدولية التي صدر بعضها مثل تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية عن عام ٢٠٢٠ حتى قبل أن يولد العام، وفيه أكد تصور اتجاهات يجب مشاهدتها بالاقتصادات العشرة التي تحسنت أكثر من غيرها من حيث سهولة القيام بالأعمال بعد تنفيذ الإصلاحات التنظيمية، وهي: المملكة العربية السعودية والأردن وتوجو والبحرين وطاجيكستان وباكستان والكويت والصين والهند ونيجيريا، ونفذت هذه الاقتصادات ما مجموعه 59 إصلاحاً تنظيمياً في عام 2018/19 وهو ما يمثل خمس إجمالي الإصلاحات المسجلة في جميع أنحاء العالم، وجهودهم تركزت في المقام الأول على مجالات بدء الأعمال التجارية، والتعامل مع تصاريح البناء، والتجارة عبر الحدود.
مجلس الشؤون الخارجية الأمريكي دفع مجموعة من الباحثين إلى تخيل عام ٢٠٢٠ أو Visualizing 2020: Trends to Watch، وكان أول الاتجاهات المتخيلة هي تقلص التدفقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، المدهش أنه قبل أن ينتهي العام جرى الإعلان عن النية لتوقيع المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري الأمريكي الصيني، الذي سوف يوقّع في واشنطن مع مطلع العام الجديد. الاتفاق ينص على أن تكثف الصين من وارداتها الزراعية والحيوانية من الولايات المتحدة مقابل رفع الأخيرة لكم غير قليل من رسومها الجمركية على السلع الصينية. الاتجاه الثاني المتوقع هو تلاشي يسار أمريكا اللاتينية؛ حيث انحسر ما يسمى بالمد الوردي بين الحكومات اليسارية المنتخبة ديمقراطياً، التي اجتاحت أمريكا الجنوبية في العقد الأول من القرن الحالي. والاتجاه الثالث يظهر في أزمة الإسكان التي تلوح في الأفق في أفريقيا؛ أما الرابع فهو تصاعد الإرهاب اليميني المتطرف سواء كان ذلك من اليمين السياسي الغربي أو اليمين العقائدي الإسلامي، وتستفيد جميع الجماعات الإرهابية من الشبكات الدولية عابرة الحدود. والاتجاه الخامس يتمثل في التقليل من انبعاثات السيارات حيث مثل عام ٢٠١٩ نقطة تحول في مواقف المجالس التشريعية في الدول الغربية، التي أصدرت قوانين خاصة بالتخلص التدريجي من السيارات التي تعتمد علي البنزين والسيارات التي تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي، في محاولة لمكافحة تلوث الهواء في المناطق الحضرية والحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من قطاع النقل، التي تمثل حوالي 15 في المئة من الانبعاثات العالمية.
الاتجاه السادس له أهمية خاصة؛ حيث يمثل من ناحية نوعاً من التطور التكنولوجي الذي يخص البشرية كلها، لأنه يتعلق بسباق البحث والتطوير؛ حيث تستثمر الصين موارد هائلة لتطوير الجيل القادم من التقنيات الحيوية، وهي في طريقها إلى أن تصبح أكبر منفق في العالم في مجال البحث والتطوير (R&D). وقد يساعد اتجاه بكين لتصبح قوة عظمى في الابتكار في دفع النمو والازدهار العالميين، لكنه يهدد أيضاً التنافسية الاقتصادية الأمريكية والأمن القومي. مثل ذلك لن يمر بسهولة على الولايات المتحدة التي لا تزال تتصدر العالم في إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير، ويمكن أن تظل قادرة على المنافسة إذا أعادت الحكومة الاستثمارات في هذا المجال إلى مستوياتها السابقة. ويذكر التقرير أن زيادة الإنفاق الفيدرالي الأمريكي على البحث والتطوير إلى متوسطه التاريخي البالغ حوالي 1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي (حوالي 230 مليار دولار) يمكن أن يشعل نوع الاكتشافات التي أعادت تشكيل الاقتصاد الأمريكي وتنشيطه. وفي هذا السياق يأتي الاتجاه السابع الذي سمي شيخوخة آسيا؛ حيث أصبحت آسيا محركاً للاقتصاد العالمي خلال العقود الأخيرة، ولكن ديناميكية المنطقة قد تتلاشى حيث تواجه بعض القوى الكبرى شيخوخة السكان، وستحتاج أكبر اقتصادات المنطقة الصين واليابان وكوريا الجنوبية إلى إدارة تحول ديموغرافي عميق يتقلص فيه عمالها بشكل مطرد، وربما يتم تجاوزهم من قبل السكان غير العاملين. وستكون الآثار المترتبة على هذه المجتمعات وحكوماتها وعلاقاتها الخارجية هائلة؛ حيث تحتاج المزيد من النساء إلى العمل لدعم الأسر والحفاظ على الثروة الوطنية. ويقع على الدولة عبء تقديم الرعاية بشكل متزايد لكبار السن.
الانتقال من عام إلى آخر يدفع أيضاً إلى اتجاه البحث في تأثير التكنولوجيا، والمتغيرات والتوجهات الكثيرة الجديدة على الحياة الإنسانية؛ وفي مقال في النيويورك تايمز بتاريخ ١٩ ديسمبر/كانون الأول الجاري، بعنوان "اثنا عشر مليون هاتف ومجموعة بيانات واحدة، وصفر خصوصية" ذكر ستيورات طومسون وشارلي وارزيل أن هناك الكثير الذي يبعث على القلق، فيقول المؤلفون: "بعد قضاء أشهر في فحص البيانات وتتبع تحركات الأشخاص في جميع أنحاء البلاد والتحدث مع العشرات من شركات البيانات وخبراء التكنولوجيا والمحامين والأكاديميين الذين يدرسون هذا المجال نشعر بنفس الشعور بالقلق، وفي المدن التي يغطيها ملف البيانات يتتبع الأشخاص من كل حي، سواء كانوا يعيشون في منازل متنقلة في فرجينيا أو في أبراج فاخرة في مانهاتن". وبينما يبدو هنا قلق شديد على الحرية الشخصية للإنسان فإن الاتجاه الآخر ينحو إلى مراجعة الكثير من الاتجاهات المستقبلية التي سبق تصورها في أزمنة سابقة. هنري فاريل أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جورج واشنطن في واشنطن العاصمة وإبراهام نيومان الأستاذ في نفس الجامعة نشرا مقالاً في دورية "الشؤون الخارجية بتاريخ ١٠ ديسمبر/كانون الأول الجاري، بدأ بالمقولة التي وزعها "توماس فريدمان" من أن العالم قد انتقل من نظام قام على الحوائط (أي حدود الدول) إلى نظام يقوم على الشبكات (العنكبوتية المتعدية للحدود) أي الظاهرة العالمية القائمة على العولمة. فاريل ونيومان يريان أن "العولمة" لم تكن قوة تساعد الإنسان على التحرر من أسر الحدود القومية، وإنما زادت من تعرض الإنسان للانكشاف والمنافسة والتحكم، وأن الشبكات أثبتت أنها لم تكن طرقاً إلى الحرية، وإنما إلى أنواع جديدة من القيود!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة