بماذا يحتفل العراقيون؟ هؤلاء الذين يحلمون بحياة بسيطه خالية من الأوجاع والآلام والهموم.
هل كُتبَ على العراقيين أن يعيشوا التراجيديا اليونانية بكل انفعالاتها الروحية والجسدية؟ فهم لم ينعموا براحة البال ولا بطمأنينة النفس منذ الإطاحة بالنظام الملكي عام 1958، بانقلاب وحشي ودموي ترك آثاره المدمرة، علاوة على أنه فتح باب الانقلابات على مصراعيه أمام عناصر الجيش. فكان ذلك الانقلاب إيذاناً باللعنة الأبدية التي تلاحق عبر سنوات من العذابات والآلام والاضطرابات. هكذا كُتب عليهم أن يمروا عبر جحيم دانتي، يتامى ومشردين ولاجئين ومنفيين وشهداء وقتلى وفقراء ومحاصرين منذ ذلك التاريخ، الذي قال عنه الشاعر الراحل بدر شاكر السيّاب: سلاماً بلاد اللظى والخراب/ ومأوى اليتامى وأرض القبور/ أتى الغيث وانحلّ عقد السحاب/ فروى ثرى جائعاً للبذور/ وذاب الجناح الحديد/ على حمرة الفجر تغسل في كل ركن بقايا شهيد/ وتبحث عن ظامئات الجذور/ وما عاد صبحك ناراً تقعقع غضبي وتزرع ليلاً/ وأشلاء قتلى.
بماذا يحتفل العراقيون؟ هؤلاء الذين يحلمون بحياة بسيطه خالية من الأوجاع والآلام والهموم، لكنهم يفتحون عيونهم على الخواء، حيث لا عمل، لا مستشفيات، لا كهرباء، لا ماء، لا مؤسسات، لا مدارس، ولا أمان وسط حياة تهيمن عليها المليشيات المسلحة.
كأن الشاعر يتحدث عمّا يجري الآن في ساحات الاعتصام التي قضت مضاجع نظام المحاصصة الطائفية، العاصمة ومدن الجنوب تثور وتطالب بإسقاطه بعد أن كان هذا النظام يتوهم بأن تلك المناطق ظهير له. ولكن لم يدرك هؤلاء أن الثورة الحقيقية لا تعرف المذهبية القائمة على الظلم والخديعة والإرهاب. فقد أفقدت المظاهرات السلمية صوابهم، وأخرجتهم عن طورهم من قصورهم في المنطقة الخضراء التي استولوا عليها بصورة غير شرعية، وسقط القناع عن وجوههم باستخدام أبشع أنواع القمع والقتل بالرصاص الحي والقنابل الدخانية المحرمة والقنص والحرق والسكاكين والعبوات اللاصقة بالسيارات، وغيرها من وسائل التنكيل بالشباب الثائر الذي لا يطالب إلا بحقوقه المهدورة.
وأظهرت الأحزاب الدينية التي تهيمن على المشهد السياسي من خلال مليشياتها المسلحة المناصرة لإيران، عجزها التام عن إدارة العراق أو تطويره، بل سطوا على المال العام الذي يُقدّر بالمليارات وهرّبوه إلى خارج البلاد أو أعطوه منحة وتعويضاً مزيفاً لأسيادهم في إيران. وعلاوة على ذلك، أغرقوا البلاد بالقتل والتهجير دون أن في ترديد نظرية المؤامرة الممجوجة واتهام الشعب العراقي كله بالتآمر ضدهم بسبب مظاهراته السلمية لا أكثر. هذه هي الأجواء التي تسبق استقبال السنة الميلادية الجديدة، بل هي تعكر مذاق الاحتفال بالأعياد.
تلتقي أحزان العراقيين وأفراحهم في ساحة التحرير، يراودهم حلم واحد يوحدهم هو تحرير البلاد من الأحزاب الدينية الفاسدة التي هدّمت العراق بصورة منهجية من خلال إيقاف المصانع الصغيرة والمتوسطة التي كانت مصدر حركة الاقتصاد العراقي. وبعد ثورة تشرين، كما يطلق عليها العراقيون، وازدياد الوعي باستهلاك البضائع العراقية، ازدهرت مبيعات شركة الألبان العراقية في منطقة أبوغريب بعد مقاطعة المنتجات الإيرانية. ففي بلاد الخيرات، من المفترض أن يكون شعبها من أسعد شعوب الأرض. يكفي أنهارها السبعة، وأرضها الزراعية، ومواردها البشرية الشابة، ومعادنها، ومناخها المتغير، ومساحاتها الشاسعة أن تجعل من العراق واحة الشرق الأوسط. ولكن الإسلام السياسي بسياسيته الفاشلة التي تعتمد على تسويق خرافات التدين جعل من هذه الواحة الافتراضية أشد البقاع بؤساً على وجه الأرض، فلا يزال ملايين المهجرين يسكنون الكرفانات والخيام والبراري ويعيشون في حياة بدائية تعود إلى القرون الوسطى.
هكذا وعلى مدار ستة عشر عاماً، يودّع العراقيون ويستقبلون عامهم بالأحزان والآلام. ولا تجد الأجيال المتعاقبة أي بارقة أمل في التغيير، إلا انطلاق ثورة تشرين يولّح بالخلاص الحتمي، لأنها أول ثورة جماهيرية حقيقية، فكّكت المحاصصة الطائفية، والأحزاب الدينية، والشوفينية، والمذهبية الضيقة وما يُسمى بالمرجعية، وغيرها من الآفات التي خنقت أنفاس العراقيين في سبيل تحررهم الآتي وعيشهم الرغيد.
ولا يزال العراقيون لا يحتفلون بالأعياد شأنهم شأن الشعوب الأخرى؛ خاصة بعد تهجير المسيحيين من بلادهم الأصلية والاستيلاء على بيوتهم وشرائها بأثمان بخسة تحت سيف التهديد والوعيد، وتقلص عددهم إلى عشرات المئات بعد أن كانوا بالملايين.
تمر أعياد رأس السنة الميلادية بحزن عميق لأن كل في عائلة شهيد من الماضي أو الحاضر، من الحروب أو من المظاهرات، من القنص أو من القنابل المسيلة للدماء، والعبوات اللاصقة، فبماذا يحتفل العراقيون؟ هؤلاء الذين يحلمون بحياة بسيطه خالية من الأوجاع والآلام والهموم، لكنهم يفتحون عيونهم على الخواء، حيث لا عمل، لا مستشفيات، لا كهرباء، لا ماء، لا مؤسسات، لا مدارس، ولا أمان وسط حياة تهيمن عليها المليشيات المسلحة. عام جديد يتمنى فيه المغتربون والمهجرون العودة إلى ديارهم، عام جديد تحلم به أم الشهيد أن تنجز معاملة ابنها لكي تستطيع إعالة أبنائه المشردين، عام جديد يتخلص فيه العراقيون من الفساد، الآفة التي تنخر جسد العراق وروحه، عام جديد يُحاسب فيه القتلة والمجرمون.
كيف يحتفل العراقيون بالعام الجديد وهم قدموا بالأمس القرب وما زالوا يقدمون الشهيد تلو الآخر، أكثر من 500 شهيد، وأكثر من 12 ألف جريح، بينهم أكثر من 3 آلاف معطوب ومعوق.. لم يحدث ذلك حتى في حروب الجيوش النظامية. ولا تزال جراح الأمهات طرية، آلاف الجرحى لا يجدون أي علاج، عذابات يتكبدها العراقيون في مطلع كل عام جديد، لكن ثورة تشرين أعادت لهم بارقة الأمل بغد أجمل يتذوقون فيه الاحتفال بالأعياد الآتية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة