الهزة التي تعرضت لها علاقات واشنطن مع باريس، أبرز حلفائها الأطلسيين، على خلفية اتفاق أوكوس، تركت نُدباً واضحة في علاقات الجانبين.
كان اللافت أن حدة الموقف الفرنسي هي الأكثر إثارة بسبب ما بدا صفعة مؤلمة وجّهها "بايدن" للفرنسيين ببُعديها، الاقتصادي، حيث أجهض صفقة بنحو ثلاثين مليار دولار كانت فرنسا ترسم للاستئثار بها مقابل بيع غواصات لأستراليا، والبعد الثاني السياسي معنوي بامتياز، إذ تجلى في إدارة الظهر لأبرز عواصم القارة الأوروبية المؤثرة، وأولها باريس، والتصرف بما توحيه مصالح الولايات المتحدة فحسب، دون أي اكتراث بمصالح أحد الحلفاء الأطلسيين إن لم يكن أهمهم.
السلوك الأمريكي ليس الأول تجاه أوروبا، تجاهلت واشنطن حلفاءها الأوروبيين في العراق عسكريا وسياسيا، بما فيها معارضة فرنسا، وكذلك في أفغانستان احتلالاً عام 2001 وانسحاباً 2021.
السؤال الذي ظل ماثلاً: لماذا أدار الرئيس الأمريكي ظهره لحلفائه الأوروبيين، شركائه في الناتو؟ هل يتعلق الموقف الأمريكي بقناعة إدارة بايدن بأن الأوروبيين أضعف من أن يتم الاعتماد عليهم في تنفيذ وتطبيق استراتيجية المواجهة مع الصين؟ أم أن الجانب الأمريكي يدرك طبيعة المصالح المتشابكة بين دول أوروبا والصين، خاصة الاقتصادية والتجارية، ما يعني عدم استعدادهم للسير في ركب واشنطن هذا؟ وإلى أي مدى سيؤثر الانفراد الأمريكي بسياسة المواجهة مع بكين على دول أوروبا كوحدة سياسية واقتصادية؟ أين سيكون موقع دول الاتحاد الأوروبي عندما تتطور آليات المواجهة الباردة بين بكين وواشنطن؟
منذ خروج الولايات المتحدة منتصرة في الحرب العالمية الثانية طفت نزعة الهيمنة على سطح سياسات واشنطن مع حلفائها الغربيين قبل غيرهم. ثمة عوامل واقعية كرّست هيمنة القوة العظمى على القارة الأوروبية، منها ما عُرف بـ"خطة مارشال" لإعادة بناء أوروبا المدمرة والأخذ بيدها لبناء اقتصاداتها وصناعاتها، ومنها المظلة النووية لحمايتها من الخطر النووي السوفييتي وقتذاك.
لم تجد دول أوروبا الخارجة من تحت رماد وركام خمس سنوات من مطحنة الحرب ودمارها سبيلا لبناء قوة مستقلة عسكرية واقتصادية تكون ندّاً للولايات المتحدة الأمريكية، بما فيها فرنسا وبريطانيا، آخر دول الاستعمار الضاربة جذوره قرونا في الزمن، كان ذلك تحديا ذاتيا تزامن مع تحد خارجي حين اقتسم المنتصران، الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة، مناطق النفوذ في العالم بين شرق وغرب، وفي قلب الجغرافية الأوروبية ذاتها.
ظل الهاجس الأوروبي حيال الخطر السوفييتي ضاغطا على الوعي الأوروبي وعلى السياسة الأوروبية على مستوى الدول وعلى مستوى الكتلة الأوروبية جمعاء.
أفادت واشنطن واستثمرت في هذا الهاجس فأفردت مظلتها العسكرية والأمنية على القارة الأوروبية، تحت عنوان حلف شمال الأطلسي، وقدمته لاحقا بصفته كتلة موحدة بقيادتها لمواجهة حلف وارسو. على مدار عقود من الزمن لم يتسنَّ للفكر السياسي الأوروبي إنتاج صيغة استقلالية بالمفهوم الجمعي للقارة.
تقبل الزعماء الأوروبيون البقاء تحت الظل الأمريكي عسكريا وأمنيا. حافظت كل دولة من دول القارة على استقلاليتها وسياستها الضامنة لمصالحها دون استعادة أي من عواصمها الراسخة مقومات التمايز عن واشنطن، حين يتعلق الأمر بقضايا كبرى أو عالمية، بما فيها داخل جغرافية قارتها كما حدث في يوغوسلافيا السابقة في تسعينيات القرن الماضي.
تناقضُ المصالح بين الأوروبيين والأمريكيين يسطع أكثر كلما تعرضت علاقاتهما لاختبار من العيار الثقيل كما حدث في اتفاقية أوكوس. استعادة الثقة بين الجانبين ليست مستحيلة وليست صعبة. دول أوروبا الوازنة، بحجم ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، تواجه كل واحدة منها تحديات جوهرية بشأن طبيعة العلاقة مع واشنطن وسياقاتها مستقبلا. كثير من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى ستجد نفسها محكومة بواقع علاقة التبعية عسكريا وأمنيا واقتصاديا فضلا عن التفاعل السياسي مع النهج الأمريكي بحدود ما يسمح لها بالمحافظة على مصالحها، وما يجعلها بعيدة عن الارتدادات العنيفة للاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع الصين.
أعطى السلوك الأمريكي مع فرنسا خصوصا، ومع حلفائها الأوروبيين بشكل عام، الانطباع بأن الرئيس "بايدن" تعامل معهم على أنهم "كيانات" وليسوا بمرتبة "الحلفاء"، الذين يجب استشارتهم في الاستراتيجيات الكبرى. الحسابات الجيوسياسية الأمريكية تجاوزت مقولة "الحليف" إلى منطق "التابع".
إذا كان العالم كله بات يعترف بقوة الصين الاقتصادية والتجارية ونمو ميزانيتها العسكرية المطرد وتأثيرها الدولي الناعم في بعض القضايا، فهل تكون خيارات "بايدن" تجاه الصين من جهة، وتجاه حلفائه الأوروبيين من جهة أخرى صائبة؟ هل يعتقد الرئيس الأمريكي أن أوروبا لا بد ملتحقة بركب سفينته على حساب مصالحها الحيوية المتشابكة مع الصين؟
الخيارات أمام أوروبا ككتلة وكدول متفرقة تتقلص، فلا خيارُ الانضمام إلى استراتيجية واشنطن يلبي مصالحها، ولا التمسك بعلاقاتها الاقتصادية والتجارية مع بكين تمنحها الحصانة المطلوبة لتفادي الغضب الأمريكي.
وحده البناء على الإمكانات الذاتية سبيل للدفاع عن الهوية والمصالح والاستقلالية استنادا إلى إرث تاريخي عريق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة