بوب ديلان الشاعر بثوب "مغني".. أحمد فؤاد نجم الأمريكي!
أجّلت الأكاديمية السويدية قرارها أسبوعًا لأول مرة في تاريخها ثم جاءت بروبرت آلن زيميرمان الشهير بـ"بوب ديلان" لتضمه إلى نادي النوبليين
مثّل قرار الأكاديمية السويدية منح المغني والموسيقي والشاعر الأمريكي "بوب ديلان" جائزة نوبل في الآداب لهذا العام، "حلاً" و"مفاجأة" معًا. فالأكاديمية كانت في موقف صعب. أغلب قراراتها السابقة، خصوصا فيما يتعلق بجائزتي السلام والآداب، أثار انتقادات بسبب طابعها السياسي غير الملتبس. وخيارات هذا العام كانت أشد وضوحا ـ لو تمت ـ في تغليب الحافز السياسي على المعطى الأدبي. أجّلت الأكاديمية قرارها أسبوعًا لأول مرة في تاريخها، ثم جاءت بروبرت آلن زيميرمان الشهير بـ"بوب ديلان" لكي تضمه إلى نادي الأدباء النوبليين.
لقد حلّت المعضلة، وأعادت الجائزة الاعتبار إلى "الأدب" الأمريكي بعد تجاهل دام عقدين. لكن المفاجأة هي أن الأكاديمية السويدية كسرت قوالبها الصارمة بهذا الاختيار. هذا على الأقل ما خلصت إليه أغلب التعليقات الفورية على الإعلان. فبوب ديلان، ليس أديبًا بالمعنى التقني، ولا هو شاعر بالمعايير الأكاديمية. لكن فات المنتقدين، أنها ليست المرة الأولى التي تكسر فيها مؤسسة نوبل قواعدها. فقد فعلتها في العام الماضي 2015 عندما اختارت لجائزتها البيلاروسية "سفيتلانا ألكسيفيتش"، تقديرا لسردياتها الصحفية (تقارير وتحقيقات) حول المعاناة الإنسانية في الشرق الأوروبي. وفعلتها أيضا، قبل ذلك بعامين 2013، عندما اختارت الكندية "أليس مونرو"، وهي بالأساس كاتبة قصص قصيرة، وهو نوع من الكتابة الأدبية لم يكن يلبي في السابق معايير جائزة نوبل.
بوب ديلان الذي أصبح نوبليا بامتياز، سمعته أولا كمغنٍ عاشق Tangled Up in Blue ، يحكي قصة الحبيبة التي غادرته. كلمات بسيطة يمكن أن تلتقطها في أي حوار بين إثنين. انتظرها على جانب الطريق. كانت تمطر، وحذاءه قد تبلل. كان ينوي الذهاب نحو الشرق فأخذته إلى الغرب. ثم تخلت عنه في ليلة حزينة، لكنها قالت له سنلتقي ثانية يوما ما..
ويستكمل هذه الحكاية الحزينة برائعته الذائعة "مثل حجر يتدحرج" Like a Rolling Stone .
بهذه البساطة يحكي ديلان عن تعقيدات الحياة، فيبث في كلماته طاقة شعرية هائلة، تحولها من كلام منطوق في حوار عادي إلى صيغة كلامية ذات حمولة شعرية مدهشة. وبسبب تلك الشعرية سوف ينظر إلى بوب ديلان دائما على أنه شاعر. وهو تصنيف ضروري عند تقييم منجزه. فصوته ليس من الأصوات الآسرة أو حتى الجميلة. هو مؤد جيد، استطاع بصوته أن يوصل كلماته إلى جموع هائلة ربما لم تكن لتهتم بقراءتها لو بقيت مجرد حروف على ورق. وهو ليس موسيقيا مبتكرا. فجل ما فعله لحنيا، هو توليفات ذكية بين أنماط موسيقية مثل البلوز والجاز والموسيقى الريفية والشعبية مع استفادة من عالم الروك.
لكن الغريب هو أن نقّادا أمريكيين، سوف ينسبون إليه دائما الفضل الموسيقي، مع تجاهل لمنجزه الشعري، على النحو الذي فعله مثلا كاتب سيرته كلينتون هيلين، وكيفن ديتمار مؤلف كتاب "دليل كيمبردج إلى بوب ديلان". وعلى ما يبدو فإن هؤلاء يهتمون ببوب ديلان المغني والموسيقي، ويتجاوزون عنه كشاعر، لأن شعريته تتصادم مع ما رَسَت عليه الذائقة الرسمية الأمريكية.
تعود جذور عالم بوب ديلان الفني إلى الستينيات والسبعينيات، سواء داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو خارجها. كانت حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة في أوج نشاطها. وكانت مستويات العنف في حرب فييتنام قد بلغت ذروتها. وكانت موجات الغضب (خصوصا الشبابي) تعم الغرب الأوروبي والأمريكي. تبلورت حركات تمرد عديدة، حمل بعضها الطابع العنفي (منظمات اليسار المسلحة)، واتسم بعضها بالطابع السلوكي المشاكس (جماعات الهيبيز والبانك)، والتزم كثيرون بموقف أخلاقي وسياسي ضد الجموح الكولونيالي والرأسمالي. لهؤلاء، وعنهم، كتب بوب ديلان. استطاع أن يترجم أوجاعهم بشفافية عالية، وأن يبث في تطلعاتهم طاقة أمل، ما جعل البعض يعتبره الناطق الرسمي باسم "الشباب المتمرد". وبغض النظر عن دقة هذه الملاحظة، فإن بوب ديلان ـ في رأيي ـ حمى آلاف الشباب من الجنوح نحو العنف أو من الانحراف السلوكي. وربما لهذا يأخذ عليه بعض المنظّرين المتأخرين قربه من المؤسسة الرسمية، فقد وفر عليها الكثير من (وجع الرأس) لو لم تستفد منه في ضبط فوضى الشباب. إنه مجرد تعسف في التحليل، يشبه تلك الجوائز الممنوحة لأسباب سياسية!
هؤلاء المنظّرون يحملون مسطرة "المناضل الغيفاري" ويقيسون بها بوب ديلان. أو أنهم يقيّمونه وفي أذهانهم نموذج أمريكي آخر هو "بوب مارلي"، ذلك المغني والموسيقي الذي استقطر عذابات السود، وأطلق آهاتهم إلى مديات لم تصلها موسيقى البلوز والجاز من قبل. عموما ذلك موضوع آخر.
شعرية بوب ديلان، تعصى على التصنيف إذا أخضعت لأي من المقاييس الجاهزة، الأيديولوجية أو الأدبية المعيارية. هو ليس شاعرا فطريا، ولا يكتب الشعر وفي ذهنه شرطي قواعد. لقد كان صاحب موهبة ممتصة، تنهل من قاع المدينة نبضها، وتستوحي من النخبة الثقافية أبلغ ابتكاراتها الفكرية والنظرية. وبهذا المعنى فإن المغني الشعبي، المتمرد، كان العضو الرابع غير المعلن في جماعةBeat Generation مع جاك كيرواك، وآلن غينسبرغ، وويليام بوروز. من هؤلاء، وخصوصا من غينسبيرغ الذي كان بمثابة أبا روحيا له، استمد ديلان تلك الأناقة والعمق في التعبير.
بتلك الأناقة والعمق كتب بوب ديلان قصيدته الطويلة "لا بأس أماه، أنا فقط أنزف!" "It's Alright, Ma (I'm Only Bleeding)" وكانت أبلغ تعبير عن الانهيارات الإنسانية التي تسببت بها حرب فييتنام للأمريكيين، حيث يجد كل فرد منهم نفسه مشغولا ليس بالولادة وإنما بالموت.
وهو معنى سيكرره في أغنيته "أطرق باب الجنة" Knocking on Heaven Door:
أماه انزعي هذه الشارة عن صدري
لم أعد قادرا على النظر
كل شيء يغدو مظلما في عيني
أشعر كأنني أطرق باب الجنة
واللافت، أن عذابات الناس في أغاني وقصائد بوب ديلان ليست فردية. هي عذابات الجموع وإن جاء التعبير عنها بصيغة المتكلم، كما في قصيدته "في مهب الريح" Blwing in The Wind:
كم من الطرقات ينبغي للانسان أن يقطعها.. قبل أن تدعوه رجلا؟
كم من البحار ينبغي للحمامة البيضاء أن تطير فوقها.. قبل أن تنام في الرمال؟
وكم من القنابل ينبغي أن تقذفها المدافع.. قبل أن تحظر للأبد؟
الجواب، يا صديقي، في مهب الريح.
هذا هو بوب ديلان الشاعر أولا وأخيرا، الذي كان علامة متفردة في الشعرية الأمريكية الحديثة. هنا كانت إضافته الحقيقية إلى الإنجليزية المعاصرة، أو على وجه التحديد إلى الألسنية الأمريكية.. هو على نحو آخر، "أحمد فؤاد نجم" الأمريكي!
aXA6IDE4LjIyMC4yMDAuMzMg
جزيرة ام اند امز