القنبلة أو الجوع.. خيارات الموت أمام سكان الموصل
المواطن الموصلي أمام أحد خيارين، إما أن ينتظر الموت بقنبلة، أو ينتظر الموت البطيء؛ فهو لا يجد الغذاء ولا الماء
يبدأ المشهد بسيدة عجوز تحمل في يمينها وعاءً به كمّ ضئيل من المياه، وفي يسراها حقيبة تجمع فيها ما تجده يداها من الغذاء حتى وإن كان ملقى في الشارع.
تتحرك العجوز ببطء، عيناها ذاهلتان لا أثر فيهما للحياة، فقط ضوء يأتي ويذهب إذا ما سقط ناظريها على قطعة خبز أو شربة ماء.
لم تكن تبكي، ولكن قلبها انفجر بأنين امتزج فيه الألم مع القهر والإحساس بالخوف وهي تقول: "ماذا ينتظرنا بعد ذلك يا الله؟ بتنا نبحث عن الطعام في الشوارع كالحيوانات، ونشرب من مياه الآبار، ماذا يحمل الغد لأحفادي الذين لا أدري ما إن كنت سأصل إليهم أم ستفصلني عنهم إحدى قذائف "الدواعش"؟ لا أدري يا ربي ماذا ينتظرنا في الموصل".
بهذه الصورة المأساوية بدأت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية تقريراً موسعاً عن وضع مدينة الموصل العراقية التي وقع مواطنوها بين رحى الحرب التي تشنها القوات الحكومية ضد تنظيم "داعش" وسندان العوز والاحتياج للإمدادات من الغذاء والماء النظيف.
وجاء الشتاء ببرودة جوه وفقر الدفء وغياب شمس العراق الدافئة، ليسيطر على المشهد جليد يحافظ على لونه الأبيض ما لم ينتهكه لون الدم الأحمر، ليزيد ذلك من المعاناة.
خيارات الحكومة:
وترجع مأساة المواطنين "الموصليين" إلى 7 أسابيع مضت، حين بدأت القوات الحكومية في التحرك نحو تحرير المدينة من قبضة "الدواعش"، كان تحركاً بخطوط بطيئة؛ حيث انصبّ الاهتمام في هذه المرحلة من الحرب على حماية المواطنين وعدم تعريض حياتهم للخطر، حتى أن الحكومة أرسلت عدداً من الرسائل إلى المواطنين تخيّرهم فيها بين البقاء مع ضمانة ألا يتعرضوا لأي ضرر وتوفير احتياجات الحياة، أو يرحلوا عن المدينة إلى مكان آخر في حالة سيطر عليهم القلق.
ولكن واقع الحال هو أن هناك أكثر من 3.5 مليون مواطن عراقي يفتقرون إلى سبل الحياة الأساسية من مأكل ومياه نظيفة للشرب وإسعافات أولية باتت ضرورية كالغذاء مع اندلاع المعارك، فأصبح المواطن لا يعرف من أين ستأتيه القنبلة!
هنا يطرح سؤال مهم نفسه، هل لم يكن لدى الحكومة العراقية الاستعدادات الكافية لمواجهة احتياجات المواطنين بعد أن وعدتهم بأن شيئاً لن يحدث لهم في حالة اختيارهم البقاء في المدينة أثناء عمليات تحريرها من "الدواعش"؟ فمع حديث المسؤولين الحامل للثقة، وإعراب وكالات الإغاثة الدولية عن خشيتها من أن النزوح من المدينة قد يتسبب في تكدس في مخيمات للإيواء في مدن أخرى، هي مزدحمة بالفعل، اختار معظم مواطني الموصل الاستجابة لنصيحة الحكومة بالبقاء في منازلهم مع تقدم القوات المسلحة.
عجز الجميع:
الآن الكثير من هؤلاء السكان يفتقرون حتى إلى الخدمات الأساسية؛ فمع استمرار القتال انقطعت المياه عن عدد متزايد من أحياء المدينة، وبات أهلها مضطرين إلى اللجوء لمياه الآبار، وهي ليست آمنة بما يلزم، كما باتت الحكومة وحتى وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة عاجزة عن توزيع المساعدات من غذاء ودواء إلى جميع المحتاجين.
وهكذا وقع ما حذرت منه وكالات الإغاثة؛ حيث بدأ السكان في الهجرة الداخلية، متنقلين من حي إلى آخر؛ بحثاً عن الطعام أو للهروب من القصف.
وحتى تكتمل مأساة هؤلاء المدنيين، فإن جانباً كبيراً من الموصل لا يزال واقعاً تحت قبضة "داعش"، تلك المناطق باتت محرمة على غير أهلها الذين يعيشون فيها؛ حيث فرض "الدواعش" حصاراً صارماً على هذه المناطق، ومنعت الخروج منها أو الدخول إليها، بل فرضت تسعيرة خاصة للمواد الغذائية والماء، مستغلة حالة النقص في هذه الاحتياجات الضرورية للحياة.
وماذا عن العمل التطوعي والمنظمات المعنية بحماية حقوق الإنسان، تحدثت هذه المنظمات الدولية عن صعوبة بل استحالة الوصول إلى العراقيين داخل المدينة؛ فهو في ظل "الدواعش" والقتال بينهم وبين القوات العراقية بات أمراً محفوفاً بالمخاطر، وليس هذا فحسب، بل إن هذه الوكالات الإنسانية تحدثت أيضاً عن عدم امتلاكها ما يكفي من المساعدات لتلبية حاجات المحاصرين في الموصل.
الحرب والجوع:
وهنا تنقل "واشنطن بوست" عن جاسم العطية، نائب الوزراء العراقي لشؤون الهجرة والنزوح، قوله إن أكثر من 150 ألف "موصلي" نزحوا من المدينة إلى مخيمات الإيواء على أطرافها، بينما قرر أكثر من مئات الآلاف عدم ترك منازلهم، رغم كل الظروف القاسية، هؤلاء أيضاً -كما يقول العطية- في حاجة إلى مساعدات، ولكن مشكلتهم أكبر من هؤلاء الذين نزحوا عن الموصل، حيث يتهددهم خطر الحرب، إضافة إلى خطر الجوع والعطش.
ومن السيدة العجوز في بداية المشهد "الموصلي" إلى شاب في الثلاثينيات من العمر، معه والدته وأخواه الصغيران، يتحدث الشاب يونس صبري بلهجة تحمل الغضب واليأس من واقع لم يصنعه ولا يريده فيقول: "لا يوجد للمواطن سوى أحد خيارين، إما أن ينتظر الموت بقنبلة تسقط عليه من السماء دون أن يعرف إن كانت لداعش أو للقوات العراقية، أو ينتظر الموت البطيء؛ فهو لا يجد الغذاء ولا الماء ولا الوقود، وقد أعلن الشتاء عن تشريفه، خياران ينتهيان بالموت، ولكن بطريقة مختلفة".
ويضيف متهكماً: "ربما يكون هذا هو التغيير الذي تحدثت عنه الولايات المتحدة الأمريكية".