يحكي الكاتب الإيطالي "دومينيكو ستارنونه" رواية مكررة بتفاصيل مللنا سماعها ومعايشتها.
الغريب في الأمر أنه يحكيها بدرجة ما من العمق تجعلنا نستمتع بالسماع للحكاية نفسها، بتفاصيلها التي نتوقعها ونعرفها، بل وتنير في أذهاننا نقاطا وتطرح أسئلة جديدة، ثم تعيد إحياء تلك التساؤلات التي سألناها لأنفسنا في كل مرة رأينا فيها الحكاية على صفحات الحياة الواقعية، ليس فقط بين دفتي رواية.
تلك الحكاية، التي يحب الرجل فيها فتاة في سنّ صغيرة ويتزوجها وينجب منها، وتسير الحياة حتى يرى فتاة أخرى صغيرة ومقبلة على الحياة بلا مسؤوليات، فينجذب إليها ويشعر فجأة أنه صغير على كل تلك المسؤوليات التي ألقيت على عاتقه دون أن يشعر أو يشارك.
يسير وراءها مطلقا صرخة احتجاج على الوضع، ويقضي معها أشهرا أو سنوات.. ثم يعود إلى بيته حينما يكتشف أن لديه أبناء يحتاجون إليه، وزوجة ما زالت تنتظره بشكل ما.. فيجد أن زوجته تحولت لشخص آخر، يشك أنه يعرفه من الأساس.
"آلدو"، بطل الرواية، يحكي عن زوجته أنها "كانت تنفعل ثم تستعيد تماسكها، لكن كنت أشعر أنها في كل مرة تفقد شيئا من نفسها، تذبل".
توافق الزوجة على العودة بحجة الأولاد.. وتسير الحياة بالشكل المعاكس لما كانت عليه في بداية الزواج.. الزوجة موبّخة ومتحكمة ومؤنّبة، والزوج خاضع وشاعر بالذنب.
الشيء الوحيد الذي يتفقان عليه هو الشعور بالتضحية، هو يشعر أنه ضحّى بسعادته من أجل أولاده، وهي تشعر أنها ضحّت بكرامتها من أجل أولادها.
لكن السؤال الأهم الدائر في رأسي منذ أنهيت الرواية هو: هل يتحمل الآباء سوء بعضهم من أجل الأولاد فعلا؟ أم هو نوع من الأنانية يغلفانه بغلاف التضحية؟ وهل تؤثر تلك التضحية -المزعومة- في الأبناء سلبا أم إيجابا؟
الفصل الأخير في الرواية يحل اللغز، ويجيب عن السؤال. يظهر فيه كل من "آنا" و"ساندرو"، الابن والابنة، وحيدين، بعد أن جاوزا الأربعين من عمرهما. يكرهان بعضهما ولا يجتمعان إلا مضطرين في بيت الوالدين.
تصر "آنا" على تذكر بعض لقطات الماضي وتسأل أخاها، فيكشف لها أسرارا يعرفها ولا تعرفها، فيقلبا البيت رأسا على عقب بحثا عن المزيد من الأدلة على أسئلة أو تخيلات في ذهنَيهما عن الوالدَين. هل الأم فعلا مظلومة أم أنها هي الأخرى كانت على علاقة برجل غير أبيهما؟ هل الصور التي وجداها لأبيهما مُخبأة بعناية في مكتبته مع تلك الفتاة التي خان أمَّهما معها وتركهما من أجلها تشي بسعادته فعلا أم حزنهما هما؟ هل أصبحا سويَّيْن أم أصبحت البنت نسخة مُشوّهة من أمّها؟
كانت النتيجة أنها رفضت الإنجاب كي لا تُري أبناءها ويلاتِ العالم. وصارت علاوة على ذلك مادية لا تفكر إلا في كسب المال، حتى إنها تقاطع أخاها بسببه، وتجتمع معه مرة أخرى، لا لشيء إلا لتقنعه ببيع بيت العائلة وتوزيع المال عليهما.
ترى الابنة أن والديها، لو علّماها شيئا في هذه الدنيا، فهو ألا تنجب أطفالا قط.
على جانب آخر، يضيّع الابن "ساندرو" عمره مع النساء. يتزوج مرة رسميا، ومرتين بشكل غير قانوني، ويُنجب أربعة أبناء من نساء متعددات.. كل هذا غير عَلاقاته العابرة بفتيات من مختلف الأعمار، فأصبح نسخة أكثر سوءًا من أبيه.
في رأيي، الأمور لم تصل إلى هذا الحد بمجرد خروج الأب من البيت وقرار العودة إليه، أو من موافقة الأم على العودة.. الأمور ساءت حينما قرَّرا فعل ذلك بنفسية "الضحية"، حينما تصرَّفا طوال الأربعين سنة -بعد اتخاذ قرار الرجوع من المنطلق نفسه- فخلَّف ذلك مشكلاتٍ أو مناوشات أو اتهامات متكررة يوميا، يراها الأبناء ويسمعونها بانتظام، فيفعل ذلك بهم فعل المطرقة الخفيفة على الصخرة الضخمة، لا تكسرها من أول طرقة، بل بتَكرار الطرقات الخفيفة لعقود طويلة حتى تتشقق وتنكسر.
"أربطة".. هو اسم الرواية ومعناها.. حياتنا كلها عبارة عن "أربطة" تكوّن شبكةً تربطنا بمحيطنا ومجتمعنا وتنحدر منها سلالتنا مثلما ننحدر نحن من أسلافنا.. القصة أشبه بشبكة عنكبوت كلها أربطة لها معانٍ لا تفهمها إلا الدائرة التي تحيطها، كل ما نمرُّ به يؤثر في حياتنا بشكل ما، و"كل قصة طريق مسدود تصل إلى لحظة مثل هذه" فنسأل أنفسنا: "ماذا نفعل؟ هل نعود أم نبدأ من جديد؟".. كل قصة لها أن تصطدم بالكلمة الأخيرة.. والقرار بيد أبطالها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة