"أصل الأنواع".. داروين من "قديس محتمل" إلى رجل طاردته الكنيسة
كتاب "أصل الأنواع" يعاد طباعته 3 مرات في العام نفسه، ووصلت مبيعاته في السنة الأولى إلى أكثر من 10 آلاف نسخة، وهو رقم كبير في ذلك الزمن
في 24 نوفمبر من العام 1859 نشر تشارلز داروين كتابه الشهير "أصل الأنواع"، الذي عرض فيه لنظريته في التطور.
وتحول الكتاب من مغامرة علمية إلى كتاب مثير للجدل له طابع شعبي تم اختزاله في الفكرة الشائعة "الإنسان أصله قرد".
وبسبب هذا الاختزال في المضمون وجد الكتاب إقبالا جماهيريا، وهو ما دفع ناشره لطباعة 1250 نسخة، وكان سعر النسخة الواحدة 15 سنتاً، وبيعت جميع النسخ في اليوم الأول.
وأعيدت طباعة الكتاب 3 مرات في العام نفسه، ووصلت مبيعاته في السنة الأولى إلى أكثر من 10 آلاف نسخة، وهو رقم كبير بمقاييس ذلك الزمن، وكان جميع من يقرأه يسأل نفسه: هل حقاً نحن من سلالة القرود؟
كان عنوان الكتاب الكامل "في أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي" وفي الطبعة السادسة من الكتاب عام 1872م، تم تغيير عنوانه إلى الاسم المختصر "أصل الأنواع" .
ووجد الكتاب معارضة كنسية شديدة وصلت حد المعركة، وبادر أسقف مدينة أكسفورد عقب صدور الكتاب باتهام مؤلفه تشارلز داروين وقال: "ما جاء في الكتاب لا يتفق بحال من الأحوال مع كلمة الله".
ورأى أن الكتاب يريد أن ينسف "كمال المجد الإلهي"، وهو اتهام لفت نظر الجميع لأن مؤلف الكتاب نجح في الحصول على شهادة في اللاهوت من جامعة كامبردج.
وتوقع البعض أن يحصل تشارليز داروين مؤلف الكتاب على وظيفة قس في إحدى الكنائس الصغيرة لكن قدره تغير حين دُعي للسفر على متن السفينة "البيجل" التي تقوم بمهمة المسح القومي في المياه الإقليمية، وكان قائدها يبحث عن شخص يرافقه في السفر بعد أن تركه مساعده.
وفي الوقت نفسه، كان قائد السفينة مولعاً بالبحث عن تفسير ديني للخلق، ووجد أن داروين دارس اللاهوت هو الأنسب للرفقة.
وقضى داروين على متن السفينة 5 أعوام، منذ 1831 إلى عام 1836، وخلال رحلته تعرف على معجزات الخلق والطبيعة، ولم يكن لديه رغبة في تناول قضية شائكة إلى أن عاد إلى بلاده.
المثير أن جد داروين الدكتور أرازموس، ناقش فكرة التطور في قصيدة كتبها بعنوان "معبود الطبيعة"، لكنها لم تثر اهتمام أحد، ولولا أن الحفيد قرأ كتاب توماس مالتوس "مقالة في مبدأ السكن" والتي يؤكد مؤلفها أن الزيادة في الطعام لا يمكن أن تتماشى أبداً مع النمو السكاني لأسباب رياضية، لما انشغل داروين بالتفكير في أصل الأنواع.
ولفت انتباه داروين خلال رحلته أن جميع الحيوانات تتنافس على الموارد، وأولئك الذين يمتلكون التفوق الفطري يزدهرون ويمررون ذلك التفوق إلى سلالتهم، وبهذه الوسيلة تتحسن الأنواع.
يقول داروين وهو يرمي كتاب مالتوس جانباً: "إنها فكرة بسيطة جداً، كم كنت غبياً لأنني لم أفكر فيها". واقتنع أخيراً بأن الأنواع لم تكن دائماً كما كانت منذ الخلق ولكنها خضعت للتغيير.
في القسم الأول من الكتاب، ناقش داروين الاعتراضات التي يمكن أن تثور ضد نظريته، وخصص بقية الفصول للحديث عن الجيولوجيا والتوزيع الجغرافي للنباتات والحيوانات والحقائق ذات الصلة بعلم الأجنّة.
وبعد سنوات من البحث ظهرت الداروينية، أو النظرية التي تشرح التطور البيولوجي، وتنصُّ على أنَّ "جميع أنواع الكائنات الحية تنشأ وتتطور من خلال عملية الانتقاء الطبيعي للطفرات الموروثة التي تزيد من قدرة الفرد على المنافسة والبقاء على قيد الحياة والتكاثر".
وانطلاقا من هذه الفكرة، عمل على بناء نظريته التي قلبت العالم رأسا على عقب، ففي بريطانيا وحدها قال رئيس الكنيسة إن "مؤلفات داروين تفتح باب الاضطراب في كل شيء من الأشياء التي أظهرها لنا الله في كتبه المقدسة".
ورفضت الرقابة توزيع الكتاب باعتباره "خيانة وعدم أمانة"، وأعلنت الكنيسة الإنجيلية أن داروين يريد أن يجعل من الأناجيل مجرد خيال لا يمكن تصديقه، إنه يريد أن نكذب كلمة الخالق الأولى.
ونشرت الكنيسة بيانا قالت فيه: "إذا كنا جميعاً أناساً وقرودا قد نشأنا من جرثومة أصلية واحدة، فهل يمكن أن يكون تصريح القديس بولس العظيم أن (الأجسام مختلفة وأجسام الآدميين نوع غير أجسام البهائم والوحوش، وهذين غير أجسام الأسماك والطيور) غير صحيح؟".
وفي عالمنا العربي وقع انقسام واضح بين تيارين فكريين؛ الأول تحمس للفكرة والثاني عارضها بشدة، وكانت هذه المعركة واحدا من العناوين الرئيسية في المجتمع الثقافي العربي نهاية القرن الـ19 حيث عارضها جمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا، فيما ناصرها مؤسسو مجلة الهلال ومجلة المقتطف بعد ذلك.
وظهرت عام 1918 لأول مرة الترجمة العربية للكتاب، والتي نفذها إسماعيل مظهر صاحب "مجلة العصور"، وهي الترجمة التي استكملها فيما بعد الدكتور محمد يوسف حسن، وقام بترجمته للفصلين الـ14 والـ15 من الكتاب بعد وفاة إسماعيل مظهر، الذي قضى عمره متحمسا للنظرية الداروينية وكان أبرز المروجين لها.
أما أول كتاب عربي عنها فكان بعنوان "فلسفة النشوء والارتقاء" لمؤلفه الطبيب شبلي شميل، الذي كان أول من نشر مذهب داروين باللغة العربية وانتصر له في كتابه "فلسفة النشوء والارتقاء" 1910.
ودعا إلى ضرورة الفصل بين الدين والعلم ضماناً لعدم تنازعهما: "الخلط بين الدين والعلم من الأمور الشائكة، لأن فيها ربط متغير بثابت، فالنظرية العلمية تتحول وتتبدل، أما أصل الشرع فثابت".
كما طالب بضرورة الاحتكام لمعيار البقاء للأصلح في التخطيط وانتخاب الأفكار، والعزوف عن النهج المتزمت في الإصلاح والتغيير، مبيناً أن المنهج الثوري ينبغي أن يقوم على الإصلاح التدريجي.
وكتب محمد فريد وجدي كتاباً فند فيه آراء شميل بعنوان "الإسلام في عصر العلم"، ورد جمال الدين الأفغاني بكتابه الشهير "رسالة للرد على الدهريين".
وطلبت السلطات المصرية من شبلي شميل التوقف عن مقالاته الاستفزازية خوفاً على حياته، حيث تعرضت عيادته إلى هجوم من بعض شباب الأزهر.
وواصل سلامة موسى في مجلته "المجلة الجديدة" الدفاع عن النظرية وتحليل آراء منتقديها وجمع آرائه في كتاب "نظرية التطور وأصل الإنسان".
ومن اللافت أن الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي كان أيضا أحد المتحمسين لنظرية داروين وكتب في مجلة "المقتطف" مقالاً يشرح فيه النظرية وفوائدها وأهميتها، ورد عليه رجال الدين وحرَّضوا الناس عليه واتهموه بـ"الفسق"، فاضطر الوالي إلى عزله من وظيفته، ليعتكف الشاعر في بيته خائفاً على حياته من الاعتداء عليه.
ورغم تطور نظريات التطور بحيث بات النقاش حولها ينتمي إلى تاريخ العلم أكثر من العلم، فإن الكتاب احتل مكانته في الثقافة الإنسانية.
aXA6IDMuMTQ1LjE2NC40NyA= جزيرة ام اند امز