تاريخ تقدم البشرية هو تاريخ قدرة الإنسان على الاستثمار.
أتحدث هنا عن اقتراض الدول، وليس اقتراض الأفراد، فهذه قضية أخرى. ومع ذلك، ينبغى تأكيد أن وجود قطاع مالى كبير ومتقدم هو أحد أهم معالم الاقتصاد الصناعى الحديث. ولا تستطيع دولة أن تحقق تقدما مضطردا دون هذا القطاع المالى.
وقبل أن أستمر فى مناقشة هذه القضية، فعلينا أن نتذكر أن أكبر مدين فى العالم هو الولايات المتحدة. ويطلق على الاقتراض «الائتمان» Credit، أى الثقة، فأنت لا تقرض الضعيف بل تتصدق عليه، ولكنك تمنح القرض لمن تأتمنه. ونظرا لقوة الاقتصاد الأمريكى. فإن العالم يتعامل بالدولار. ولكن العالم لا يحصل على هذا الدولار منحة من الولايات المتحدة، بل مقابل تصدير وسلع وتمويل استثمارات للولايات المتحدة. والدولار هو فى نهاية الأمر دين على الاقتصاد الأمريكى، ولكنه لا يطالب به أحداً، فيظل يتداول خارج الولايات المتحدة. ويقدر حجم الدولارات الأمريكية – نقدا خارج البنوك – بنحو 1.34 تريليون (التريليون هو ألف مليار)، أى بواقع 4200 دولار لكل أمريكى، هذا بالإضافة إلى ما توظفه دول العالم فى أصول الخزانة الأمريكية. فأكبر مدين فى العالم هو الولايات المتحدة، وهى تتمتع بهذا الوضع نتيجة لقوة الاقتصاد وليس لضعفه. وهكذا تستفيد الولايات المتحدة بنوع من “الريع” أى الحصول على إيرادات دون جهد لمجرد قوتها! وليس موضوع قروض الولايات المتحدة هو ما يهمنا هنا، بل الوضع فى مصر.
ذكريات أليمة للاقتراض الخارجى:
يحمل التاريخ الاقتصادى المصرى ذكريات أليمة عن الاقتراض الخارجى، بدءا من قروض سعيد باشا عند بدء حفر قناة السويس مرورا بقروض الخديو إسماعيل وابنه توفيق، وما ترتب على ذلك من فرض الرقابة المالية على الموازنة ووجود ممثل فرنسى وآخر بريطانى لمراقبة هذه الموازنة، وانتهاء بالاحتلال البريطانى، وحيث استقر فى الأذهان أن هذا الاحتلال جاء - إلى حد بعيد – بسبب القروض الأجنبية. ومن هنا حالة الحساسية والقلق الغريزى لدى المصريين من كلمة “الدين الخارجى”. وبعد الاحتلال البريطانى، قامت مصر بإصلاحات مالية أعادت التوازن إلى الموازنة ، وبدأت مصر تحقق وفراً فى الموازنة، بل أصبحت مصر دائنة للعالم الخارجى. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية حققت مصر دائنة على الاقتصاد البريطانى، لم تقم بريطانيا بسدادها مباشرة فيما عرف بقضية الأرصدة الاسترلينية. وبعد قيام ثورة 1952 بعد خمس سنوات، بدأت مصر إلى نوع من المساعدات الأجنبية، وكانت البداية 1958 حينما عقدت اتفاقا مع الولايات المتحدة بتمويل استيراد القمح الأمريكى بنظام “المعونة الأمريكية”، حيث كانت مصر تدفع قيمة الصفقة بالجنيه المصرى وتستخدمه الولايات المتحدة فى تمويل بعض برامج الإصلاح فى مصر. ولعل أحداث الاقتراض الأجنبى، جاءت عندما رفض البنك الدولى آنذاك تمويل السد العالى، وما ترتب على ذلك من تأميم القناة، وقيام الاتحاد السوفيتى بتمويل مشروع السد العالى. وبعد ذلك تعددت القروض، التى عقدتها مصر مع دول الكتلة الاشتراكية. وكانت الفكرة السائدة آنذاك، هى أن القروض الأجنبية أفضل من الاستثمار الأجنبى المباشر، لأنه يعطى لهذا المستثمر سلطة مباشرة على جزء من الاقتصاد الوطنى. وهكذا، فقد كانت الفكرة السائدة فى أوساط الحكم هى أن الاقتراض الأجنبى لا يؤثر على السيادة الوطنية، وذلك بعكس الاستثمار الأجنبى المباشر الذى يكون تأثيره على أوضاع الاقتصاد الوطنى!
ولم تشجع مصر الاستثمار الأجنبى إلا بعد الانفتاح وصدور قانون جديد للاستثمار لتشجيع رأس المال الأجنبى على الاستثمار. وفى نفس الوقت استمرت مصر فى الحصول على قروض من الكتلة الشرقية، ثم فى تلقى معونات من الدول العربية.
والسؤال هو، هل يجب أن تقوم التنمية الوطنية على الموارد المحلية وحدها؟ أم أن هناك حاجة – فى كثير من الأحوال – إلى فتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية، فضلا عن الالتجاء إلى الاقتراض عند الحاجة؟
التقدم لا يتحقق إلا بالاستثمار:
تاريخ تقدم البشرية هو تاريخ قدرة الإنسان على “الاستثمار”، أى توجيه جهوده، ليس لإشباع حاجاته المباشرة، وإنما بتشكيل أدوات وظروف مناسبة لزيادة قدرته الإنتاجية فيما بعد، وهذا هو الاستثمار. ولكن هذا الاستثمار يحتاج إلى موارد، وهى لا تأتى إلا من مدخرات سابقة محلية أو خارجية. وعندما تكون الدولة فقيرة، فإن متوسط الدخل الفردى يكون بالضرورة منخفضا أيضا، وبالتالى فإن حجم المدخرات الوطنية تكون محدودة. ولذلك كانت بداية الثورة الصناعية قاسية على معظم الأفراد. فقد قامت هذه الثورة فى إنجلترا فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر، وكان لابد من توظيف الموارد المتاحة لبناء قاعدة صناعية فى دولة فقيرة. ومن هنا كانت مرحلة بداية التصنيع بالغة القسوة على غالبية العمال البريطانيين. فبدأ تشغيل النساء والأطفال لساعات طويلة، وفى ظروف صحية بالغة السوء، وتركز العمال فى مناطق مزدحمة لا تتوافر فيها الشروط الصحية السليمة. ولم يكن غريبا أن ينخفض سن الوفيات بين العمال. وكانت كتابات الكاتب البريطانى شارلز دكنز وصفا سليما لأحوال البؤس لدى العمال فى هذه الظروف القاسية. وقد عرفت هذه الفترة قيام مجموعة من العمال والمعروفة باسم «اللوديت» لتدمير المصانع وآلات النسيج باعتبارها مظاهر للظلم الاجتماعى الذى فرض على طبقة العمال مع بداية التصنيع، وعندما ذهب كارل ماركس إلى لندن، كان هذا مازال وضع العمال فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر. فالصناعة فى الدول الرأسمالية – خاصة إنجلترا – لم تبدأ فى ظروف عادية بل كانت فترة قاسية على عدد كبير من المواطنين، وإذا كانت الظروف العالمية قد تحسنت عند قيام الثورة البلشفية، فإن النظام السوفيتى الجديد لم يكن أقل قسوة، وكان النفى إلى سيبريا مكانا للمعارضين السياسيين والمشاغبين من العمال. وربما الدولة الوحيدة التى تمت فيها الثورة الصناعية دون آلام شديدة هى الولايات المتحدة الأمريكية، نظرا لتمتعها بموارد طبيعية هائلة وتدفق رءوس الأموال الأوروبية عليها. ومع ذلك، فقد عرفت الولايات المتحدة فى نفس الوقت أكبر مظاهر البؤس والاستعباد فى الزراعة تجاه العبيد المختطفين من إفريقيا.
ولعل أهم قصة نجاح فى العصر الحديث هى نهوض عدد من الدول النامية الفقيرة إلى درجة متقدمة من التصنيع والتقدم. وأشهر هذه التجارب هى ما عرف باسم “النمور الآسيوية” (كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافوره، هونج كونج)، وانضمت إليها بعد ذلك ماليزيا وإندونيسيا. وقد انفتحت هذه الدول، فى وقت مبكر، للاقتصاد العالمى، مع اتجاه واضح للتصدير والانفتاح على الأسواق العالمية. وقد ظهر أخيرا العملاق الصينى، بعد ما عرف بثورة التصحيح فى 1978، والانفتاح على العالم. وأصبحت الصين حاليا ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، وإن ظل متوسط الدخل الفردى فيها محدودا نظرا لكثرة السكان. وفى السنوات الأخيرة ظهرت الهند كقوة اقتصادية يعتد بها. وقد اتبعت معظم هذه الدول سياسات للتصدير والانفتاح على العالم. ولعل أهم ما يميز هذه المجموعة الناجحة فى الأداء الاقتصادى هو أنها كلها وبلا استثناء، استطاعت أن تحقق معدلات عالية من الاستثمار فى حدود 30% (ثلاثون فى المائة) من الناتج الإجمالى، وذلك لفترة مستمرة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود. وقد قام اقتصاد معظم هذه الدول – بما فى ذلك الصينى – على الانفتاح على الاقتصاد العالمى وجذب رءوس الأموال الأجنبية.
نقطة الضعف الأساسية فى الاقتصاد المصرى هى انخفاض معدل الادخار:
رأينا أن نجاح المعجزة الآسيوية ومن بعدها الصين، وإلى حد كبير الهند، إنما يرجع إلى أنها استطاعت أن تحقق معدلا مرتفعا للاستثمار السنوى ولفترة مستمرة لما يقرب من ثلاثة عقود، مما نقلها من مجموعة الدول النامية (الفقيرة) إلى مجموعة الدول الصناعية الجديدة Emerging والتى تنافس الدول الصناعية الكبرى فى التصدير كما تشاركها فى العديد من المجالات.
والسؤال، هل تستطيع مصر أن تلحق بهذه المجموعة الصاعدة؟ العائق الرئيسى أمام الاقتصاد المصرى، هو نقص معدلات الاستثمار نتيجة انخفاض القدرة على توليد مدخرات محلية كافية. فمعدل الاستهلاك فى مصر يدور حول 85% من الناتج الإجمالى، وبما يجعل الادخار المحلى فى حدود 15% من هذا الناتج، وهى نسبة غير كافية لتحقيق معدلات عالية للنمو، كما هو حال النمور الآسيوية. فمصر تخصص من مواردها المحلية (الادخار) نصف ما تخصصه النمور الآسيوية للاستثمار السنوى. وإذا أضفنا إلى ذلك استمرار ارتفاع معدلات النمو السكانى، والذى يبدو أنه قد ارتفع فى السنوات الأخيرة.
وفى ظل هذه الظروف، وإذا أردنا أن نلحق بمسيرة الدول الصناعية الجديدة، فلابد من تحقيق معدل سنوى للاستثمار فى حدود 30% من الناتج الإجمالى. ومع ضعف معدلات الادخار المحلية فلا مناص من فتح الباب أمام الاستثمار الأجنبى، ولا بأس من الاقتراض لأغراض الاستثمار وزيادة الطاقة الإنتاجية للحاق بما فاتنا من فرص. المطلوب زيادة الاستثمار إلى معدلات قريبة مما حققته الدول الآسيوية بموارد محلية فى حدود الإمكان، وبموارد أجنبية كلما أتيحت الفرصة. أما إذا استخدمنا القروض الأجنبية فى أغراض غير استثمارية وبما يزيد الطاقة الإنتاجية للبلد، فهذا خطأ منا، وليس خطأ الاقتراض. الاقتراض مثل العديد من الأمور محايد، فقد يكون نافعا إذا أحسنا استخدامه، وقد يكون ضارا إذا لم نحقق هذا الغرض. فى الحالتين، المسئولية مسئوليتنا سواء أحسنا أو أسأنا. وفى هذه الحالة الأخيرة، فإن العيب فينا وليس فى مبدأ الاقتراض. والله أعلم.
* نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة