العرب مقبلون على تنافس الدول المعنية لطلب ودهم، وهذا يقوي مواقفهم ويساعدهم في المطالبة بدعم مصالحهم
المبدأ المعروف في السياسة كان يحصر وصفها بفن الممكن، إلا أن المتغيرات العالمية والعولمة وثورة المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي عوامل جديدة جعلت السياسة تحوم حول مبدأ فن المستحيل. ففي كل لحظة يجري في العالم تغيير سريع يقلب الموازين وفي كل يوم تحدث متغيرات في الدول الكبرى والصغرى على حد سواء تدعو للمتابعة والدراسة، ليس للعلم فقط ولقراءة الحدث بصورة تقليدية، بل للتنقيب عن أبعاده وانعكاساته على العالم والمنطقة والدول.
العرب مقبلون على تنافس الدول المعنية لطلب ودهم، وهذا يقوي مواقفهم ويساعدهم في المطالبة بدعم مصالحهم وقضاياهم والدعوة لإقامة سلام عادل في الشرق الأوسط تستفيد منه أوروبا كما يستفيد العرب
هذا التحول يتماشى مع مبدأ سياسي قديم وحكيم ومفيد لكل من يعنيه الأمر، وهو "ليس هناك صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل هناك مصالح دائمة".
ما يعني أن كل دولة مطالبة بالمراقبة والمتابعة والترصد للأحداث لاتخاذ موقف منها، وفق هذا المبدأ والبحث عن المصالح التي تتطلب المضي فيه وإقامة العلاقات على أساسه.
من الأحداث المهمة التي وقعت أخيراً وكانت لها ضجة كبيرة وستكون لها انعكاسات واسعة عند البدء بتنفيذ خطوات انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد ٤٧ عاما من الشراكة الاستراتجية والسياسية والاقتصادية.
هذا الخروج الذي تم التدوال به تحت اسم "بريكست" ستكون له تداعيات على العالم كله، وعلى الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة وروسيا التي طالت مناطق كثيرة، وفي مقدمتها الشرق الأوسط، لكنهما التقيا في أمر واحد؛ وهو العمل المشترك على حمل بريطانيا على الانسحاب، ضمن خطة ممنهجة لإضعاف الاتحاد الأوروبي وحصر احتكار النظام العالمي الجديد بالقوتين العظميين.
وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد بذل جهداً مضاعفاً لإغراء بريطانيا وإطلاق الوعود بشراكة اقتصادية واتفاق تجاري يسد حاجياتها ويعوض الخسائر التي تكبدتها من "بريكست.
أما التداعيات المهمة فقد طالت بريطانيا نفسها بعد الانسحاب الحزين الذي فجر الجدال حول الأضرار والنتائج بين فريق متشائم يحذر من السلبيات وفريق مصر على أن مصلحة بريطانيا تكمن في الاستقلال التام في اتخاذ القرار والسياسة الاقتصادية وقضايا الهجرة.
في الوقت نفسه، تتجدد أحاديث المخاطر القادمة التي تتناول رغبة اسكوتلندا بالانفصال عن بريطانيا وشروط أيرلندا الشمالية التي حصلت على تنازلات حدودية وجمركية لمنع سيرها على خطى جارتها والتهديد بانفراط عقد المملكة المتحدة.
أما أوروبا فستواجه بدورها مرحلة ما بعد خروج بريطانيا بحذر شديد، لأنه أضعف هذا الكيان النامي وفتح الباب أمام ضغوط على دول صغيرة لحملها على الانسحاب وسط مخاوف من عدم تمكن التحالف الفرنسي الألماني من مواجهة المخاطر والضغوط وتراجع نمو الاتحاد في غياب الشريك الثالث القوي.
وهناك أمل ضئيل بأن تتراجع بريطانيا في المستقبل عن قرارها بعد انتهاء الفترة الانتقالية التي تستمر عاماً كاملاً قد تمدد عدة مرات رغم الجزم بأن ما حدث قد حدث وأن الخروج المدوي حتمي.
في ضوء كل هذه المعطيات، لا بد من طرح سؤال على العرب بمختلف دولهم ومواقفهم: كيف سيواجهون هذا الحدث؟ وهل سيكتفون بالتفرج وعدم اغتنام هذه الفرصة الثمينة التي تخدم مصالحهم؟
قد تبدو الأسئلة غريبة وسابقة لأوانها، إلا أن المصلحة تقتضي أن يتم رسم استراتجية مرنة للتعامل مع التغيير، فبريطانيا تسعى لفتح أبواب علاقات متينة مع دول العالم وتركز أنظارها على الدول العربية، خصوصا دول الخليج، لعقد شراكة استراتجية تغنيها عن خسارة أوروبا وتوازي الشراكة مع الولايات المتحدة.
أما أوروبا التي خسرت شريكاً استراتجياً فإنها ستكون بحاجة لتقوية علاقاتها الدولية وبحاجة أكثر إلى الدول العربية بأسواقها واستثماراتها ومشاريعها، أي أن العرب مقبلون على تنافس الدول المعنية لطلب ودهم، وهذا يقوي مواقفهم ويساعدهم في المطالبة بدعم مصالحهم وقضاياهم والدعوة لإقامة سلام عادل في الشرق الأوسط تستفيد منه أوروبا، كما يستفيد العرب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة