ما بعد بريكست.. تداعيات عملية ونظرية
بعيدا عن الأزمات التي يثيرها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هناك قضية تتعلق بمستقبل النموذج الأوروبي في التكامل كنموذج مثالي ملهم
لعقود طويلة تعاملت أدبيات العلاقات الدولية مع تجربة الاتحاد الأوروبي باعتبارها النموذج والتطبيق الأمثل لنظريات التكامل الإقليمي، بدءا من "الجماعة الأوروبية للفحم والصلب" التي تأسست سنة 1951، ثم منطقة التجارة الحرة الأوروبية وانتهاء بالوحدة النقدية وتنسيق السياسات الخارجية، ومرورا بالاتحاد الجمركي والسوق المشتركة.
ومثلت هذه التجربة النموذج المثالي الذي سعت إلى محاكاته العديد من مشروعات التكامل الإقليمي في أقاليم أخرى، خاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
- بعد بريكست.. الاتحاد الأوروبي يطرح اتفاقا تجاريا وثيقا مع بريطانيا
- بريكست يقلص سوق السيارات الجديدة في بريطانيا
ومع أهمية هذه التجربة وقدرتها على الانتقال من مرحلة إلى أخرى، واستقرارها لعدة عقود، إلا أنها واجهت خلال السنوات العشر الأخيرة عددا من التحديات، أخذت مستويين أساسيين؛ المستوى الأول، هو تعرض بعض اقتصادات الاتحاد لأزمات مالية واقتصادية عديدة.
وكشفت هذه الأزمات عن عمق أزمة الأبنية المؤسسية للاتحاد، وعدم قدرة هذه الأبنية على منع انتقال الأزمات الاقتصادية والمالية العالمية إلى اقتصادات الاتحاد، أو محدودية قدرة هذه الأبنية على احتواء ومعالجة هذه الأزمات داخليا. وقدمت الأزمة المالية اليونانية الأخيرة (2010) مثالا مهما، عكس -بالإضافة إلى ما سبق- غياب التوافق داخل أعضاء الاتحاد حول طريقة إدارة الأزمة.
أما المستوى الثاني، هو خروج إحدى دول الاتحاد الأساسية، وهي بريطانيا، من الاتحاد وذلك بعد عقود كاملة من الاندماج في عملية التكامل -بل قيامها بدور قيادي داخل هذه التجربة- وبعد وصول عملية التكامل إلى مستويات متقدمة، نزولا على نتيجة الاستفتاء الذي أُجري في 23 يونيو 2016، والذي كشف عن تأييد 51.9% لبديل الخروج من الاتحاد، وانتهاء الأمر بخروجها فعلا في الأول من فبراير الجاري، بعد عقود من الاندماج في تلك العملية.
وبعيدا عن الأزمات العديدة التي يثيرها خروج بريطانيا من الاتحاد، سواء فيما يتعلق بمستقبل علاقة الاقتصاد البريطاني باقتصادات الاتحاد أو بتداعيات الخروج البريطاني على العلاقات عبر الأطلسي، أو غيرها، تظل هناك قضية مهمة يثيرها الخروج وتتعلق بمستقبل النموذج الأوروبي في التكامل كنموذج مثالي ملهم -أو معياري كما يذهب البعض- لتجارب ومشروعات التكامل في باقي الأقاليم.
كما يثير الخروج تساؤلا كبيرا حول مستقبل نظريات التكامل الاقتصادي بشكل عام، خاصة مقولات النظريتين الوظيفية والوظيفية الجديدة، فقد مثل خروج بريطانيا من الاتحاد ضربة كبيرة لمقولات هاتين النظريتين.
لقد دعت النظرية الوظيفية إلى ضرورة تركيز عملية التكامل في القطاعات الفنية الوظيفية (التجارة، البريد.. إلخ)، على اعتبار أن تركيز التكامل في تلك القطاعات يجنب عملية التكامل للمعوقات السياسية التي قد تعترض تلك العملية؛ فتزايد الاعتماد المتبادل بين الدول سوف يجعل من التعاون الدولي في تلك القطاعات أمرا يسيرا وأقل حساسية، من ناحية، ومفيدا من ناحية أخرى، ما يؤدي إلى ظهور مؤسسات أو منظمات دولية ذات سلطة، بهدف تنسيق التعاون في قطاع محدد.
والافتراض المطروح هنا أن عملية التكامل هي عملية "تراكمية"؛ فنجاح التكامل أو التعاون في أحد تلك القطاعات سوف يؤدي إلى نقل التعاون إلى قطاع جديد وظهور مؤسسات جديدة من خلال ما يطلق عليه ديفيد ميتراني عامل "الانتشار" Ramification.
ومع نجاح هذه المنظمات في الوفاء باحتياجات الأفراد والمجتمعات -خاصة فيما يتعلق بقضايا الفقر والتخلف وسوء عدالة التوزيع- سوف تتحول ولاءات الأفراد تدريجيا إلى هذه المؤسسات، ونقل السيادة من الدولة إلى المؤسسات الجديدة عبر عملية تدريجية، حتى وإن اتسمت بالبطء.
وهكذا، عول الوظيفيون على العوامل الاقتصادية والاجتماعية في تحقيق التكامل، وأنه إذا تم تنظيم المجتمع الدولي على أسس وظيفية من خلال إقامة شبكة من المنظمات الدولية الوظيفية أو القطاعية تقوم كل منها بتنظيم مجال محدد سيتحقق التكامل في نهاية المطاف.
ووفقا للوظيفيين أيضا، فإن المخرج النهائي لعملية التكامل هو تكوين شبكة من المنظمات الوظيفية فوق القومية وإعادة تشكيل المجتمع الدولي على أساس وظيفي.
فقد افترض الوظيفيون إمكانية تحقيق التكامل من خلال التركيز على المدخلات الاقتصادية مع تحييد المدخلات أو المتغيرات السياسية، فضلا عن افتراضها أن الأفراد على استعداد لنقل وتحويل ولاءاتهم واتجاهاتهم –بشكل تلقائي- نحو المنظمات الوظيفية، خاصة مع تزايد عملية الاعتماد المتبادل، وهو ما رفضه "الوظيفيون الجدد"، الذين تعاملوا مع الوظيفي والسياسي كخط متصل؛ فإلى جانب المتغيرات الفنية والوظيفية، أولى "الوظيفيون الجدد" اهتماما بالدور الذي يمكن أن تلعبه القوى السياسية -خاصة النخب والأحزاب السياسية وجماعات المصلحة- في الانتقال من التكامل الوظيفي إلى التكامل السياسي.
ويفترض هؤلاء أن نجاح عملية التعاون الفني والوظيفي في بعض القطاعات سيؤدي إلى جر القوى السياسية إلى عملية التكامل عبر اقتناعها بالفوائد المترتبة على تلك العملية، خاصة الفوائد التي تعود على هذه القوى ذاتها، ما يؤدي إلى تشجيعها لعملية التكامل والانتقال بها إلى مستويات أكثر تقدما من المستوى الفني الوظيفي إلى المستوى "السياسي".
ومن ثم، فإن عملية "الانتشار" لدى "الوظيفيين الجدد" تعتمد على الدور المحوري للقوى السياسية والرأي العام كعامل وسيط بين التكامل الاقتصادي والسياسي. وبهذا المعنى، أكد "الوظيفيون الجدد" أن نقل عملية التكامل من قطاع إلى آخر، أو من المستوى الوظيفي إلى السياسي يأتي نتيجة تطور "مصلحة" لدى القوى السياسية والنخبة في تحقيق هذا الانتقال، ونقل عملية صنع القرار من المستوى الوطني إلى المؤسسات فوق الوطنية.
وهكذا، نظر "الوظيفيون الجدد" إلى التكامل باعتباره "عملية" تبدأ بتكامل وظيفي بين الوحدات السياسية، يعقبه تطور قناعة لدى الفاعلين السياسيين -الأحزاب وجماعات المصالح والرأي العام- داخل هذه الوحدات بجدوى نقل ولاءاتهم وتوقعاتهم السياسية نحو مركز جديد على المستوى الإقليمي تمتلك مؤسساته السلطات في مواجهة الدول الوطنية السابقة.
لقد ظلت عملية التأثير المتبادل بين عملية التكامل الأوروبية من ناحية، ونظريات التكامل من ناحية أخرى، قائمة خلال تطور عملية التكامل ذاتها. من ذلك -على سبيل المثال- ورغم الرواج الذي حققه الوظيفيون الجدد، فإن مقولاتهم تعرضت للكثير من الانتقادات، خاصة بالنظر إلى الفجوة الواسعة التي فصلت بين تطور الواقع السياسي من ناحية، والمقولات التي جاءت بها النظرية من ناحية أخرى، وتعرض عملية التكامل الأوروبية لعدد من المشكلات.
كذلك، فقد أدى عدم تحول التكامل الدولي الوظيفي في بعض المجالات إلى انتقال هذا التكامل إلى مجالات أخرى، أو إلى مجالات سياسية، إلى إعادة قراءة الأدبيات الرئيسية للنظرية، خاصة مفهوم "الانتشار"، والناتج النهائي لعملية التكامل.
وكان من بين أهم نتائج هذه المراجعات تمييز ستانلي هوفمان بين "السياسات العليا" "high politics"، مثل سياسات الأمن القومي والدفاع، و"السياسات الدنيا" "low Politics"، وتتعلق خاصة بالسياسات الاقتصادية والرفاه الاقتصادي.
وذهب هوفمان إلى أن عائدات عملية التكامل في مجال "السياسات الدنيا" تكون أكثر وضوحا، سواء بالنسبة للأفراد أو بالنسبة للدولة ذاتها، ما يجعل الدولة أكثر استعدادا لإجراء المزيد من التكامل في هذه السياسات والتنازل عن سيادتها، ويجعل أفرادها أكثر استعدادا لتحويل ولاءاتهم إلى مؤسسات فوق قومية.
أما في حالة "السياسات العليا" فالخلافات تكون عادة واسعة وشديدة، وبالتالي، فإن "الانتشار" في مجال السياسات الدنيا لا يرتب انتشارا تلقائيا في مجال "السياسات العليا".
وهو ما دعا "إيرنست هاس" إلى وضع عدد من الشروط الإضافية لعمل دينامية ظاهرة "الانتشار"، مثل توفر الإرادة لدى الأطراف المشاركة، وضرورة ارتباط المصالح النفعية بالتزام أيديولوجي أو فلسفي، وضرورة التوافق بين النخبة (الرسمية وغير الرسمية) حول هدف التكامل.
وهكذا، فإن كتابات هوفمان تفسر لنا لماذا لم ينتقل الأوروبيون إلى مستوى الوحدة السياسية الكاملة. كما قد تفسر لنا -جزئيا- لماذا قرر البريطانيون الخروج من الاتحاد. لكن التفسير الأهم ربما يأتي من كتابات "ستوارت شنجولد" Stuart A. Scheingold و"ليون ليندبيرج" Leon N. Lindberg ، اللذين ركزا على ديناميات عملية التكامل أكثر من التركيز على المخرج النهائي لتلك العملية.
وذهبا إلى أن عملية التكامل قد تنتهي إلى تطور حالة من "الانغلاق والحفاظ على الذات" encapsulation.
واقترحا في هذا الإطار مفهوما مغايرا لمفهوم "الانتشار" Spill-over وهو مفهوم "الانكماش" أو Spill-back كسيناريو محتمل لعملية التكامل، وهو مفهوم يشير إلى تراجع الفاعلين الرئيسيين عن أهداف التكامل والنزول بمستوى تلك الأهداف إلى مجرد التعاون المتبادل تحت تأثير التوترات والخلافات.
لكن رغم محاولات التصحيح الذاتي التي قام بها أنصار "الوظيفية" و"الوظيفية الجديدة"، والدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المراجعات في تفسير الخروج البريطاني من الاتحاد. لكن تظل هناك نقطتان مهمتان سيكرسهما هذا الخروج. الأولى، ما ستتضمنه هذه الخبرة من دلالات وانعكاسات سلبية على تجارب التكامل التقليدية بشكل عام والتي مثلت التجربة الأوروبية نموذجها المثالي الذي سعت العديد من الأقاليم الأخرى لمحاكاته.
وصحيح أن معظم هذه الأقاليم فشلت في هذه المحاكاة لأسباب عديدة خاصة بها، لكن الخروج البريطاني وتداعياته المحتملة، والتي قد تصل -وفق العديد من التحليلات- إلى خروج دول أخرى من الاتحاد، أو تصاعد الحركات الانفصالية، كل ذلك سينال بالتأكيد من جاذبية النموذج الأوروبي في التكامل.
النقطة الثانية، وهي مكملة للنقطة الأولى، أن تراجع المصداقية لن يقتصر على النموذج التطبيقي، ولكنه سينال أيضا من جاذبية ومصداقية الأطر النظرية التي ارتبطت بهذه النماذج. بمعنى آخر، فإن تجربة الخروج البريطاني من الاتحاد ستعمق من الأزمة المنهجية لنظريات التكامل الإقليمي.
ومن النقاط التي تتطلب مزيدا من الدراسة هنا هي "دينامية عملية التكامل"، بمعنى الطريقة التي تمت بها عملية التكامل، وأنماط التفاعل (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) بين أطراف هذه العملية، وموازين القوى التي تنتج عنها، والإدراكات المختلفة للأفراد والتيارات السياسية لسياسات وناتج التكامل.
أضف إلى ذلك ضرورة إعادة النظر في طبيعة دور الفاعلين السياسيين في تلك العملية؛ فرغم الدور الذي يمكن أن يلعبه هؤلاء في نقل عملية التكامل من مجال إلى آخر، أو من المجالات الوظيفية إلى المجالات السياسية -كما ذهب إليه الوظيفيون الجدد- لكن الخبرة الأوروبية ذاتها تشير إلى أن الأمر يعتمد بدرجة كبيرة على طبيعة هذه القوى وتوجهاتها السياسية والفكرية.
وقد تلعب هذه القوى دورا إيجابيا في مراحل معينة لكن في مراحل لاحقة قد يأخذ دور القوى السياسية اتجاها مغايرا في حالة حدوث تحولات فكرية وسياسية أو ظهور قوى وتيارات فكرية ذات توجهات أيديولوجية تُعلِي من التوجهات القومية والقطرية.
كذلك، لا بد من إعادة النظر في مفهوم "الانتشار" بعد أن ثبُتَ عدم كفايته، وبعد أن تأكد -عقب الوصول إلى مستوى الوحدة النقدية الأوروبية- عدم وجود علاقة واضحة بين التكامل الاقتصادي والسياسي، وأن الشعوب الأوروبية قد ميزت بوضوح بين مستوى التكامل الاقتصادي والتكامل السياسي؛ فتأييد الرأي العام للأولى لم يعنِ الانتقال مباشرة إلى تأييد المستوى الثاني.
وعلى العكس من مفهوم "الانتشار"، فقد يؤدي نجاح التكامل على مستوى "السياسات الدنيا" أو القطاعات الفنية والوظيفية إلى نمو شعور بضرورة وقف عملية التكامل عند هذا الحد خوفا من انتكاسها مع الدخول في مجال "السياسات العليا" الأكثر "حساسية".