الرئيس التركي وفي خطاب تعبوي - عاطفي قال أمام كتلة حزبه البرلمانية إن طيران النظام السوري لن يستطيع بعد الآن التحليق بحرية في سماء إدلب
بإعلان "السلطان العثماني" رجب طيب أردوغان خطته لمواجهة التصعيد الأخير في إدلب، تعود هذه المحافظة السورية إلى واجهة الأحداث بكامل أبعادها العسكرية والسياسية والإنسانية. هذه المحافظة التي نالت خلال السنوات التسع من عمر الأزمة السورية كل أشكال الظلم والقهر، ولم تفلح كل اللقاءات والمؤتمرات والاتفاقات الخاصة بها، إلا بإشاعة أجواء تهدئات هشة، سرعان ما تتفجر عند ملامستها أي شرارة من هنا أو هناك.
الأنظار معلقة بانتظار ما ستحمله الأيام، بل الساعات المقبلة، والقلوب تكتوي بما تنقله هذه المعركة من صور لمآسي مدنيين أبرياء واقعين بين المطرقة والسندان، تسحقهم حرب لم تعد حربهم، وأهداف لم تعد أهدافهم
الرئيس التركي وفي خطاب تعبوي- عاطفي قال أمام كتلة حزبه البرلمانية إن طيران النظام السوري لن يستطيع بعد الآن التحليق بحرية في سماء إدلب، في إشارة إلى فرض حظر للطيران في منطقة اتفاق سوتشي.
وأضاف أن الجيش التركي عزز من قواته هناك لتمكينها من الرد على أي اعتداء جديد من قِبَل القوات الحكومة السورية على القوات التركية، ليس في إدلب وحسب، وإنما على كامل الأراضي السورية، ولم يستثنِ من هجومه شركائه الروس والإيرانيين في تفاهمات أستانة وسوتشي السابقة.
هذه التطورات المتسارعة، على وقع التصعيد التركي والعناد الروسي - السوري خلال الأيام الماضية، تنقل الأمور من ضفة إلى أخرى، بعد ما تمت إشاعته من أجواء تفاؤلية في المحافظة، التي تستقبل ما يقرب من 3 ملايين سوري، ويكون الوضع قد انفجر مجدداً وتسرّب البارود من براميله التي لم تغلق أصلاً بإحكام.
تطورات جعلت الولايات المتحدة تدخل على خطها، حيث زار المبعوث الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري تركيا للوقوف على ما يجري عن قرب، قبل أن يعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أن بلاده لن تتخلى عن تركيا، حليفتها في "الناتو". هذا الموقف الأمريكي جاء بعد زيارتين مكوكيتين لوفد سياسي وأمني وعسكري روسي إلى أنقرة وفشله في إيجاد أرضية مشتركة يتم البناء عليها لإرساء تفاهمات جديدة، كما لم يستطع أحد من الطرفين انتزاع اعتراف من الطرف الآخر بأحقية موقفه من هذه الأزمة. كما جاء بعد طلب وزير الدفاع التركي من حفائه في "الناتو" الوقف إلى جانب بلاده.
وفي وقت مبكر، كانت إيران قد عرضت على تركيا رعاية وساطة ولقاء مباشر بين أنقرة ودمشق لنزع فتيل الأزمة، وقالت إن هذا العرض جاء بطلب تركي.
وكما هو معلوم، فإن التصعيد الأخير بدأ بالهجوم الذي شنته قوات النظام السوري ومن خلفها روسيا لاستعادة إدلب من سيطرة التنظيمات والفصائل الموالية لتركيا والمؤتمِرة بأمرها، خصوصا هيئة تحرير الشام "جبهة النصرة". وعلى الأرض، حققت هذه القوات تقدماً لافتاً، حيث سيطرت على عشرات البلدات والقرى، قبل إحكام سيطرتها على بلدة سراقب الواقعة على الطريق الدولي دمشق- حلب "M 5".
وفي خروج عن قواعد اللعبة، المتغيرة والمتحركة أصلاً، استهدفت القوات السورية نقاط المراقبة التابعة للجيش التركي، وأوقعت في صفوفه قتلى وجرحى، كما استهدف الطيران رتلاً عسكرياً تركياً ودمره تدميراً شبه كامل. تصعيد رفع من لهجة التهدايدات التركية وعنف ردها، حيث قصفت مواقع سورية وأسقط حلفاؤها طائرة مروحية.. كما صلّب من العناد السوري لإكمال مشوار استعادة الأراضي الخارجة عن سيطرة النظام، ليتلاشى الصوت السياسي والدبلوماسي على وقع هدير الماكينة العسكرية التي اختطفت المشهد بأكمله.
البعد الإنساني في هذا الموضوع بدا الأكثر قلقاً للجميع، حيث قال ينس لاركيه المتحدث بإسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة للصحفيين في جنيف، إن تحليلات مكتبه تشير إلى أن هذه الفترة شهدت أكبر عدد من النازحين منذ بدء الأزمة السورية قبل نحو تسع سنوات، مشيراً الى أنها "أسرع عمليات النزوح نمواً التي شهدناها على الإطلاق في البلاد".
أما المتحدث باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أندريه ماهيسيتش، فأكد أن طقس الشتاء القارس زاد من معاناة النازحين الذين يجدون صعوبة في العثور على مأوى.
في خضم هذا الواقع المتفجر، تبرز مجموعة من الأسئلة، ليس أقلها الى أين ستمضي هذه الأزمة، وهل ستضع العلاقات التركية - الروسية على المحك، وتعيد تلك الأجواء المشحونة التي سادت بعد إسقاط تركيا طائرة روسية في عام 2015؟ وما الدور الذي ستلعبه الولايات المتحدة وأوروبا في هذه الأزمة؟ وهل فعلاً ستقف بقدها وقديدها مع أنقرة وتقلب الطاولة على التفاهمات الروسية - التركية في هذا الملف؟
وهل ستشهد الأيام المقبلة إعلاناً جديداً لتفاهمات جديدة تتجاوز "سوتشي وأستانة"، وتكون مقدمة لإدخال تعديلات جوهرية على اتفاقية أضنة، وبالتالي كان لا بد من التصعيد العسكري لتمهيد الأرض تحت طاولة الحوار؟
كل هذه الأسئلة تبدو مشروعة وتحمل كماً لابأس به من الواقعية، وبخاصة أن أنقرة ليست قادرة على إدارة ظهرها لموسكو، بعد كل الصفقات السياسية والعسكرية؛ صفقة الصواريخ "إس 400"، فضلاً عن الاتفاقيات في مجال الطاقة وخطوط إمداد النفط والغاز التي تمت بينهما، والتجارب السابقة تؤكد لجوء إردوغان لإثارة الأزمات طمعاً في تحقيق مكاسب سياسية عجز عن تحقيقها عسكرياً.
صحيح أن لموسكو وأنقرة مواقف متباينة في بعض الملفات، وبخاصة الملف الليبي، لكن الصحيح أيضاً أن ما يتفقان عليه في الغرف المغلقة غالباً ما يكون مختلفاً تماماً عما يخرج الى العلن.
إذن الأنظار معلقة بانتظار ما ستحمله الأيام، بل الساعات المقبلة، والقلوب تكتوي بما تنقله هذه المعركة من صور لمآسي مدنيين أبرياء واقعين بين المطرقة والسندان، تسحقهم حرب لم تعد حربهم، وأهداف لم تعد أهدافهم، وقواعد لعبة أممية أخرجتهم من كل معادلاتها وتركتهم في مهب عواصف تذيقهم الويلات تلو الويلات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة