سبعة وعشرون نائبا بريطانيا يبعثون برسالة إلى رئيس الوزراء، بوريس جونسون، يطلبون دعمه لحظر استخدام الدين في أغراض سياسية.
هؤلاء النواب يعرضون على "جونسون" نَصّ معاهدة تحتاج إلى تبنّيها من قبل قادة العالم، ليصبح ما يمكن تسميته "تسييس الدين" جريمة تعاقب عليها القوانين الدولية.
هذه المعاهدة صاغها كبار المشرعين والخبراء والمسؤولين في الأمم المتحدة، كما تقول رسالة النواب لـ"جونسون"، وهي تحمل نهجا واضحا وبسيطا لمنع أي استخدام للدين يهدد المساواة بين البشر، أو يميز بينهم في الحقوق والواجبات، أو يسمح بالإقصاء على أساس المعتقد، أو يؤدي إلى تقييد حرية الاعتقاد.
المجموعة البرلمانية تلك تقودها النائبة العمالية عن مدينة دورهام، ماري كيلي فوي، مع رئيس أساقفة كانتربري السابق، اللورد روان ويليامز.
وتعتقد المجموعة أن المعاهدة، التي بحوزتهم -إنْ بُعثت فيها الحياة ووُضعت حيز التنفيذ- يمكنها أن تلعب دورًا رئيسيًا في نزع السلاح، وإنهاء نزاعات عديدة حول العالم، كما يمكنها أن تقضي على كل أشكال التطرف وتئد الإرهاب في مهده، وهو ما يُحدث فرقًا كبيرًا في حياة مليارات من البشر، ويخدم الأهداف الدولية في القضاء على أسباب العديد من النزاعات المستعصية، وقائمة طويلة من انتهاكات حقوق الإنسان، وحينها يتعزز الاستقرار وتُفتح أبواب التنمية المستدامة.
ما تبذله المجموعة من جهد يشبه مساعي جهات ومنظمات عدة تدور في ذات الفلك، ولكن النواب البريطانيين السبعة والعشرين يتطلعون لحل مشكلتين جذريتين تواجهان محاولات فصل الدين عن المشاريع السياسية، التي تحيد بالدين عن دوره الأخلاقي في أنسنة العلاقات بين البشر.
المشكلة الأولى تكمن في غياب التعريف الواضح لـ"تسييس الدين"، وكيفية التفريق بين مظاهره وبين ارتباط دساتير دول عدة حول العالم بالأديان. فثمة دول تعتمد الدين مصدرا رئيسيا لتشريعات دستورها، وهناك جمعيات خيرية ومشاريع إنسانية تعمل تحت مظلة حكومات أو مؤسسات دينية رسمية.
التفريق بين الأمرين ضروري جدا، لأن المطلوب من حظر "التسييس" ليس إلغاء الدين من الحياة العامة، وإنما منع استغلاله لأغراض سياسية أو غيرها، ليبقى للبشر حق ممارسة دينهم والإيمان بما يعتقدون، شرط ألا يتحول معتقدهم إلى سبب لإقصائهم، أو مبرراً لإدانة غيرهم ومحاولة التضييق عليهم.
المشكلة الثانية تكمن في غياب الإجماع الدولي حول حظر "التسييس"، وذلك يعود لأسباب عدة، من بينها حداثة هذا الطرح، وتباين مواقف الدول إزاءه، وضبابية معاييره وأدواته في الحكم والتقييم، ناهيك بعرقلة كثير من الجهات والمنظمات والأفراد لمثل هذا الأمر، بسبب تضرر مصالحهم وتعطل مشاريعهم.
تبنّي حكومة دولة مثل بريطانيا مبدأ حظر استخدام الدين في السياسة يعد بوابة مثالية للوصول إلى حالة الإجماع الدولي المنشودة بشأنه.. فالمملكة المتحدة دولة عظمى سياسيا واقتصاديا، كما أنها تمتلك مقعدا دائما في مجلس الأمن، وهي عضو فاعل في المنظمات الإنسانية والحقوقية الكبرى حول العالم.
هذا بالإضافة إلى أنها موطن متعدد الديانات، ويعيش فيه أشخاص من خلفيات عرقية وثقافية متعددة.
وبريطانيا من الدول، التي عانت في تاريخها من تسييس الدين.. فقد عاشت مع بقية دول أوروبا عصور ظلام خلال القرون الوسطى، باستخدام السلطة الدينية للمعتقدات كضابط لتفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وعلى الرغم من كل هذه المقومات لا يبدو تبني الحكومة البريطانية حظر تسييس الدين أمراً سهلا، أو يمكن الشروع به دفعة واحدة. ثمة مخاوف قد تنشأ لدى حزب "المحافظين" الحاكم قبل أي جهة بشأن هذه الخطوة، كما أن مؤسسات الدولة تحتاج إلى دراسة الأبعاد الأمنية والقانونية في مثل هذه الحالات.
يتطلب الأمر أيضا إطلاق قنوات حوار رسمي بين الحكومة وممثلي الأديان والمعتقدات في الدولة، حتى يكون هؤلاء عونا في إقناع العامة بأن ما يُطرح يصب في صالحهم وليس ضدهم.
والتجربة تؤكد أن الخبراء أو أصحاب المعرفة بالدين هم الأقدر على إقناع الناس ومحاورتهم في شؤون معتقداتهم.
في جميع الحالات، هناك كثير من الأمل في محاولة البرلمانيين البريطانيين، خاصة أنهم يمتلكون ما يمكن الاستناد إليه قانونيا لإطلاق حوار مع حكومة لندن حول الأمر، وهذا الأساس القانوني يمكن أن يستخدمه جميع المهتمين بحظر تسييس الدين في الغرب والشرق، مهما كانت أسبابهم واختلفت دوافعهم.
أما منطقتنا العربية، فلا شك أنها صاحبة مصلحة أكثر من غيرها بكثير في حظر تسييس الدين، فشعوبها عانت الإرهاب والتطرف بأبشع الصور بسبب رفع منظمات إرهابية شعارات دينية للتستر وراءها، بل وتوظيف الدين في مشاريع لم تقدم للناس سوى الموت والخراب، ولم ينتج عنها إلا تخلف المجتمعات وتأخر اقتصاديات الدول لعقود طويلة.
ولعل الخطوة الأولى، التي يجب أن تؤخذ في إطار حظر تسييس الدين في المنطقة العربية، هي منع تأسيس أحزاب وتيارات سياسية على أساس ديني.. فهذه التجمعات تفتح الباب أمام تحول المعتقد إلى قاعدة للإقصاء الفكري والمجتمعي.
فلم يعد يخفى على أحد في المنطقة العربية والعالم ككل، ذلك الدور الذي لعبته التجمعات الدينية-السياسية في خلق الفكر المتطرف وصناعة الإرهابيين على مدار عقود.. وذلك من خلال كتب وإصدارات مشوهة، ومنصات إعلام مسمومة، وبشر اختاروا نشر الكره بدل المحبة والسلام بين الشعوب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة