المملكة المتحدة تعيش اليوم عدة أزمات في وقت واحد.وكل واحدة منها ترتبط بالأخرى،إلى حدود تجعل المشهد معقدا ومركبا.
هذا العام، لم يكن المؤتمر السنوي لحزب المحافظين الحاكم في بريطانيا عادياً أبداً. ليس لأنه عقد افتراضيا وأطل قادته على الشعب عبر برنامج "زوم"، وإنما لأنه كشف عمق الأزمة التي تعيشها البلاد في المرحلة الراهنة. فخطاب رئيس الوزراء في نهاية المؤتمر لم يقدم أجوبة للأسئلة الكثيرة التي يرددها الناس ليل نهار. بل على العكس خلق مزيدا منها وجعلها جميعها معلقة بانتظار المجهول.
الحكومات البريطانية المتعاقبة، بقيادة العمال أو المحافظين، يتشابه أداؤها عموماً في غلبة الفعل على القول. ولكن الأمر بالنسبة لحكومة بوريس جونسون يبدو مختلفا، لأن الفعل بحد ذاته مرهون بمستجدات يصعب حصرها والاستعداد لكل احتمالاتها. فالمملكة المتحدة تعيش اليوم عدة أزمات في وقت واحد. وكل واحدة منها ترتبط بالأخرى، إلى حدود تجعل المشهد معقدا ومركبا حتى بالنسبة لساسة البلاد.
بين التعامل مع وباء كورونا إلى إنجاز اتفاق ما بعد الخروج مع الاتحاد الأوروبي، تواجه حكومة جونسون كثيرا من التحديات التي ترتبط بالأمرين بشكل أو بآخر. ولأن جونسون لا يملك إجابات نهائية حول مآلات أزمتي الوباء والمفاوضات التجارية مع بروكسل، جاء خطابه في مؤتمر المحافظين مشبعا بالشعارات والاستدعاءات التاريخية الفضفاضة حول قدرة البريطانيين على مواجهة الصعاب.
في ملف مفاوضات ما بعد "بريكست" تزداد حدة الاتهامات بين لندن وبروكسل. كل طرف يشعر بالضيق حيال التنازلات التي يتوجب عليه تقديمها ويتمنى أن لا يفعل ذلك، حتى لو كان الثمن الطلاق الصعب كما بات يسمى. طبعا كلفة هذا الطلاق على الطرفين كبيرة جدا ويصعب تحملها. وهذا هو السبب الوحيد الذي يبقي المفاوضات بينهما على قيد الحياة حتى اليوم، رغم كل التوتر والتجاذبات السائدة.
تأثير الانفصال دون اتفاق سيتضاعف على الطرفين إن وقع في زمن الجائحة. فالوباء يرفع من تكلفة كل شيء، كما يجعل خطط التنمية والتطوير منقوصة وهشة على كل المستويات. لهذا السبب، لم يقطع رئيس الوزراء وعودا محددة زمنياً حتى فيما يتعلق بتحسين خدمات الرعاية الاجتماعية والكهرباء. وبقي كل شيء في بريطانيا معلقاً بانتظار الدخان الأبيض الصاعد من مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل.
في خطابه، وعد جونسون بأن حكومته ستعيد بناء كل مخرب بفعل الوباء، ولكنه لا يعرف متى تنتهي كورونا. تعهد بأنه سينجز الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكنه لا يعرف إن كان سيفعل ذلك باتفاق أو من دونه. بشر بدعم كبير للخدمات في قطاعات مختلفة، وتوفير المزيد من المساكن الرخيصة، ولكن لا زالت الحكومة غير قادرة على حسم حجم الميزانية وبنود صرفها بسبب استمرار إعصار الجائحة.
حتى مساهمة الدولة في إنقاذ الوظائف ودعم العمالة منذ تفجر الوباء لا يبدو رئيس الوزراء متيقناً من جدواها. فهو قلق من تنامي الدور الحكومي في تحريك الأسواق رغم الحاجة الملحة إلى ذلك. كيف لا، وجونسون يمثل حزب المحافظين الذي يؤمن باقتصاد حر يديره القطاع الخاص بشركاته الكبيرة والمتوسطة والصغيرة. فيما يقتصر دور الدولة على جباية الضرائب وسن التشريعات والقوانين الملائمة.
يدرك جونسون خطورة توسع الدور الحكومي في دعم عجلة الاقتصاد بالنسبة للمحافظين. يعرف كم ينفر ذلك أرباب المال والأعمال منه ومن حزبه. وكيف يمكن أن يرفع من أسهم خصومهم في المعارضة، وتحديدا حزب العمال. لهذا يريد رئيس الوزراء إعادة الدولة إلى مواقعها الحيادية في العلاقة مع الأسواق. يريد ذلك بشدة وبسرعة، ولكن مرة أخرى يقف الوباء و"بريكست" حائلاً أمام وعده بتحقيق ذلك.
ولأن المحافظين لا يملكون اليوم ما يقدمونه سريعا، ولا يملكون أجوبة للأسئلة التي تشغل بال البريطانيين، لجأ جونسون إلى الوعود الفضفاضة بمستقبل أفضل على كافة المستويات. كما تعمد رفع معنويات شعبه المنكوب بالجائحة، والمذعور من احتمالات مغادرة الاتحاد الأوروبي دون اتفاق تجاري مع التكتل، أو أي قوة اقتصادية أخرى حول العالم يمكنها أن تعوض خسارة الاقتصاد الوطني في "بريكست".
خطاب رئيس الوزراء في المؤتمر السنوي لحزبه جاء إنشائياً إلى حد كبير، ولكن هذا لا يلغي حقيقة أن المملكة المتحدة تتمتع بكثير من المقومات التي يمكن الرهان عليها مستقبلاً. كذلك يمتلك المحافظون باعاً طويلاً في السياسة وإدارة شؤون البلاد. إضافة إلى أن تاريخ الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس يحفظ كثيراً من الأوقات التي تظافرت فيها جهود البريطانيين أحزاباً وشعباً للخروج من الأزمات.
ثمة كثير من خيبة الأمل يشعر بها البريطانيون بسبب تأخر حكومتهم في التعامل مع وباء كورونا. صحيح أنها ليست الحكومة الوحيدة حول العالم التي أخفقت في مواجهة الجائحة، ولكن تاريخ المملكة المتحدة رفع التوقعات كثيرا لديهم. ربما لا يجب أن يتحمل المحافظون وحدهم مسؤولية هذا الإخفاق الذي يرتبط بعوامل داخلية وخارجية كثيرة، ولكنهم بلا شك مسؤولون عن أزمة "بريكست" وما ينتج عنها.
ولا نبالغ بالقول إن نجاح جونسون في حلحلة الأزمات الراهنة للمملكة المتحدة سيدخله التاريخ على غرار القادة الذين يحب استذكارهم دائما في خطبه وتصريحاته، وعلى رأسهم ونستون تشرشل. ولكن ذلك لن يكون سهلا، وهو يتطلب أكثر من الشعارات. ربما يحتاج زعيم المحافظين لمراجعة ما فعله الحزب في الأعوام الأخيرة، وكما يقول تشرشل " كلما حدقت أعمق إلى الخلف، رأيت أبعد إلى الأمام".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة