خسر حزب العمال البريطاني مقعد دائرة هارتبول الذي أسسه بنفسه واحتكره منذ 1974.
والتبرير استعصى على زعيمه كير ستارمر الذي انتخب قبل عام على أمل توحيد الصف وإعادة الحزب إلى المشهد السياسي.
كان مقعداً واحداً ولكن له رمزية كبيرة، وفقدانه يدلل على تعثر مسار قائد أحزاب المعارضة منذ هزيمته المدوية أمام حزب المحافظين منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2019.
السير ستارمر قال إنه "يتحمل مسؤولية خسارة معقد هارتبول في مجلس العموم، وخسارة الانتخابات المحلية في إنجلترا أيضا". أكد أنه تبلغ رسالة الناخبين الواضحة جداً بأن قيادة الحزب لم تقدم ما يكفي حتى الآن لتستعيد ثقة العمال خاصة والبريطانيين عامة، وهو يتعهد بفعل ما يلزم من أجل تحقيق هذا في أسرع وقت ممكن، والسؤال المهم هو ما الذي يجب على الزعيم فعله؟ وهل يملك أن يفعله حقاً؟
النائب خالد محمود، الذي كان يشغل وزير الدفاع في حكومة الظل العمالية، وضع إصبعه على الجرح كما يقال، اتهم قادة في الحزب بالانجرار وراء شعارات لا تخدم صالح الأفراد ولا تلبي احتياجات البريطانيين من وظائف وخدمات في مناحي الحياة كافة، بصورة واحدة لخص محمود ما يجري بالقول: "إن الطبقة العليا في الحزب انشغلت العام الماضي بإسقاط تمثال تشرشل أكثر من مساعدة الناس".
ما يقصده محمود هو أن حزب العمال بات يعاني فصاما في أهدافه وتوجهاته. يلهث وراء الشعارات في نشاطاته واهتماماته، ويتجاهل الحياة اليومية لأعضائه والبريطانيين عموما، ينشط في ملاحقة العناوين العريضة من قبيل حقوق السود ومعاداة السامية، وينسى توفير الوظائف، وتنشيط الصناعات، ودعم الاقتصاد المجتمعي لخدمة الطبقة العاملة، وكل هذا لن يتم إذا ما بقي عالقا في أزمة "بريكست".
ما زال حزب العمال يعاني آثار انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي، ولا تزال الأجنحة الرافضة للانفصال فيه تهيمن على بعض قراراته، هذا الأمر يظهر الحزب بهيئة مترددة وغير واضحة أحياناً، فينفر منه البريطانيون المؤيديون لـ"بريكست"، وأولئك الذين يتطلعون إلى تجاوز الخروج، وكلاهما يجد في حزب المحافظين ورئيسه بوريس جونسون الخلاص والوعود الفعلية بتحسين الأوضاع.
تقدم المحافظون على العمال بأكثر من عشر نقاط في المناطق المؤيدة لـ"بريكست" مقارنة بالانتخابات البلدية الأخيرة، وهذا يعني فشل ستارمر وحزبه في إحياء الروابط مع الطبقة العمالية منذ الانتخابات التشريعية نهاية عام 2019. وهذا الفشل لا ينطبق فقط على مناطق "بريكست"، وإنما على جميع مناطق إنجلترا.
ثمة استطلاع رأي محدود أجراه فريق هيئة الإذاعة البريطانية في تغطية انتخابات مدينة هارتبول، تحدث فيه عدد من السكان عن ابتعاد حزب العمال عن الهموم الحياتية للناس، فخلق مسافة بينه وبينهم ودفعهم للتصويت لصالح خصومه، وكانت النتيجة ذهاب مقعد المدينة في مجلس العموم إلى المحافظة جيل مورتيمر بأغلبية تفوق ستة آلاف صوت، مقارنة بالمرشح العمالي بول ويليامز.
المشكلة أن قادة حزب العمال ونوابه منقسمون في تفسير خسارة هارتبول وتراجع شعبية الحزب عموما، هناك بينهم من لا يزال يلقي باللوم على حقبة الزعيم السابق للحزب جيرمي كوربين، وتداعيات إدارته لملفي بريكست ومعاداة السامية، فيما يطالب آخرون بتغيير عام في استراتيجيات الحزب وخططه وأدواته، وهذا يبدأ بحوار عميق ومكاشفة داخلية حقيقية لمعرفة نقاط الضعف ومواطن القوة في الحزب.
هناك فريق ثالث يرجع خسارة العمال إلى النجاح الكبير لحكومة المحافظين برئاسة بوريس جونسون في احتواء وباء كورونا وتوفير اللقاحات المضادة للفيروس بنسب تتجاوز دول العالم الكبرى، لا شك أن هذا الإنجاز سجل للمحافظين ودعم شعبيتهم إلى حد كبير، ولكنه وحده لم يكن قادرا على انتزاع مئات المقاعد البلدية من حزب العمال في إنجلترا، لو شعر البريطانيون بوجود الحزب في ملفات أخرى.
ما فعله المحافظون هو أنهم أنجزوا "بريكست"، ثم حصنوا البلاد بلقاحات كورونا، فزادت ثقة البريطانيين بهم، وأصبحوا علامة للوحدة ومثالا لتنفيذ الوعود في البلاد، ومضى الناس في دعمهم والرهان عليهم، إلى حدود تكسرت عندها أحلام حزب العمال بالنيل من رئيس الوزراء من خلال حملات التشكيك بنزاهته في قضية تجديده شقته بداونينيغ ستريت، وقضية تضارب مصالح الحكومة مع أوساط الأعمال.
بعد خسارة هارتبول ومئات المقاعد البلدية في إنجلترا يجد زعيم حزب العمال نفسه تحت ضغط شديد لاستعادة زمام المبادرة، والجميع يتوقع منه تغييرات سريعة في قيادة الحزب خلال الأيام المقبلة، أبرز ما يحتاج إليه ستارمر هو تنحية معارضي "بريكست" واستبدالهم بأشخاص يفضلون التعامل مع حقيقة أن المملكة المتحدة غادرت الاتحاد الأوروبي، وتواجه خطر الانقسام إلى دولتين على المدى المنظور.
لقد مضى على زعامة ستارمر عام كامل، وبعد أول اختبار حقيقي لما فعله على مدار هذا العام خرج يقول "إن حزب العمال قد تغير ولكنه لم يضع حجة قوية بما يكفي للبلاد، في كثير من الأحيان كان قادة الحزب يتحدثون مع أنفسهم بدلا من البلد وفقدوا ثقة العمال". لهذه التصريحات دلالات كبيرة، وهي تكشف عن أزمة الثقة التي بات يعيشها البريطانيون مع الحزب، ويعيشها قادة الحزب مع بعضهم بعضا.
ربما يحتاج ستارمر إلى مثل أعلى ينهل من تجربته، وكم من المفيد أن يكون هذا المثل عمالياً كي يجنبه الحرج، ويوفر عليه عناء التبرير لفريقه.
ربما يكون الوزير الأول وزعيم العمال في ويلز مارك دريكفورد خير مثال يمكن لستارمر الاقتداء به، فقد كان قائدا حقيقيا خلال الجائحة وحرص في قراراته على مصلحة الويلزيين قبل أي طرف كان، فأقر من قوانين الإغلاق والعزل والدعم الحكومي ما يناسب الإقليم بعيدا عن الحكومة المركزية، وكافأه السكان بإعادة انتخابه ومنحه ثلاثين مقعدا في مجلس الشيوخ، ليعود وزيرا أولاً مدة أربع سنوات جديدة.
عندما تسلم ستارمر زعامة العمال في أبريل 2020، لم يدَّعِ القدرة على تسلق جبل من التحديات التي تواجه الحزب خلال عام واحد، ولكنه وعد بإعادة بناء الصفوف استعدادا للانتخابات التشريعية المقبلة في 2024، ما يمر به "العمال" اليوم يدلل على أن البداية التي اختارها ستارمر لم تكن موفقة، أو بتعبير آخر لم تعالج الخلل الرئيسي المتمثل بغياب ثقة البريطانيين بالحزب، وغياب ثقة العمال بقادتهم، لا يمتلك أكبر أحزاب المعارضة رفاهية التجريب كل عام، ولذلك يجب على ستارمر أن يقرأ جيدا بين سطور ما حصل في 2021 وإلا سيأكله الندم بعد ثلاث سنوات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة