يتحدث وزير الجيوش البريطاني، جيمس هيبي، عن صراع غربي مع روسيا "يمتد لجيل أو أكثر".
وهذا الصراع، برأيه، واقع لا محالة، سواء مضى الرئيس فلاديمير بوتين بقرار غزو أوكرانيا أو تراجع عنه.
بهذه التصريحات تكون المملكة المتحدة أول من قرع طبول الحرب الأوروبية على روسيا، وصاحب المبادرة يتحمل مسؤولية قيادة التحالفات وحشد الجهود وإدارة المعارك، سواء كانت الحرب باردة أم ساخنة.
رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، قال في "اجتماع ميونيخ للأمن" قبل بضعة أيام، إن الغرب يحتاج إلى التعاضد والتكاتف ضد روسيا، وهو في هذا يعلن بوضوح عن استعداد بلاده لتصدر الجبهة ضد الدب الروسي.
ثمة أسئلة واقعية تبوح بنفسها في هذا الإطار، أولها يدور حول شكل المواجهة المتوقعة مع "ورثة" الاتحاد السوفييتي.
والثاني يتعلق بإمكانية خوض المملكة المتحدة هذه المواجهة بمفردها.. أما الثالث ففحواه باختصار: هل تخوض بريطانيا هذه الحرب بالأصالة عن نفسها أم بالنيابة عن الولايات المتحدة؟
ميادين الحرب ستنطوي على جبهات عديدة كالسلاح والسياسة والتكنولوجيا، والاستخبارات، والإعلام، والاقتصاد.
وهذه الميادين قد تمتد في جغرافيتها على كامل دول أوروبا كما يتوقع "جونسون"، ولن تنجو منها دولة تبنَّت موقف الغرب أو روسيا.
وعلى ضوء هذه المعطيات، تحتاج المملكة المتحدة إلى دعم ومؤازرة من حلفائها، وبخاصة الاتحاد الأوروبي، الذي سيكون ميدان المواجهة الرئيس والمتضرر الأكبر من الحرب، لذلك فهو يسعى لتجنُّبها بكل الوسائل الممكنة والأدوات المتاحة حتى الآن.
بعد "الاستقلال" أوروبياً، ربما تتطلع المملكة المتحدة لاسترداد أمجاد الإمبراطورية التي "لا تغيب عنها الشمس"، لكن حكومة حزب المحافظين تعرف أن حماستها سوف تصطدم بالبرلمان، حتى لو ملكت الأكثرية فيه.. فلم يعد البريطانيون يثقون بتحالفات الحرب مع أمريكا بعد غزو العراق قبل نحو عقدين، كما أنهم، كغيرهم من شعوب القارة العجوز، لا يزال يلاحقهم شبح الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ولأن البرلمان يراقب جيدا كل ما تصرح به أو تفعله حكومة لندن إزاء الأزمة الأوكرانية، يؤكد "جونسون" ووزراؤه في كل مناسبة على عدم وجود قوات بريطانية مقاتلة في كييف، وعدم وجود نية أصلا لدخول حرب مباشرة مع الروس هناك، حال قرر فلاديمير بوتين أن يجتاح أوكرانيا، أو يُسقط النظام فيها.
"جونسون" ووزراؤه يؤكدون في كل مناسبة على أن استعدادات الحكومة تتلخص فقط في قائمة طويلة وقاسية من العقوبات على الأفراد والشركات الروسية، إضافة إلى المشاركة الفعالة في تعزيز قوات دول الناتو، ناهيك بالدعم الإنساني للأوكرانيين إن اشتدت عليهم الأوضاع بعد وقوع الغزو الروسي على بلادهم.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يريد أن يبادر الغرب بالحرب على روسيا، أو على الأقل أن يشعل فتيلها من خلال تسريع عملية ضم بلاده إلى الناتو.. وربما هو في هذا يلتقي مع بريطانيا، التي كان وزير دفاعها، بن والاس، أول من أكد خلال اجتماع الناتو قبل أيام، رفض إغلاق باب عضوية الحلف بوجه كييف.
"زيلينسكي" بات يستشعر الخطر في اشتعال الجبهات مع الانفصاليين المؤيدين لموسكو داخل أوكرانيا.. وهذا واحد من السيناريوهات التي توقَّع الغرب أن ينفجر عبره الغزو الروسي، وربما هذا ما دفع بوزيرة الخارجية البريطانية، ليز تروس، إلى توقع حدوث الأسوأ في الأزمة الأوكرانية خلال الأسبوع المقبل.
دون أن يقع الغزو يصعب على المملكة المتحدة أن تقود حربا على الروس.. وإن وقع الغزو لا أحد يدري إن كانت دول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة فرنسا وألمانيا، ستترك قيادة الجبهة لبريطانيا، حتى لو كانت متفوقة عسكريا عليهم، وتحظى بقبول وتأييد أمريكا ودول أخرى حول العالم في "الدفاع" عن أوروبا.
هناك رأي يقول إن واشنطن فوّضت لندن بمواجهة موسكو لتتفرغ هي لمواجهة الصين، ولكن هل يمكن فعلا فصل الجبهتين عن بعضهما؟ وهل "الحرب العالمية الثالثة"، التي تُقرع طبولها في أوكرانيا وتتردد أصداؤها في كل بقاع العالم، ستخوضها الصين وروسيا بشكل منفرد، وكأن عدوَّهما ليس واحدا؟
حتى الآن، لا تزال أمريكا وبريطانيا تنتظران من روسيا إطلاق الرصاصة الأولى.. بعدها ستبدأ العقوبات الاقتصادية التي تعزل موسكو عن العالم، كما تقول نائبة الرئيس الأمريكي، كامالا هاريس، وتبدأ أيضا عمليات الحشد الغربي العسكري في دول حلف الناتو المتاخمة لروسيا استعدادا للمواجهة المباشرة.
ما تبوح به التصريحات الغربية هو أن المعركة العسكرية مع روسيا ستكون آخر مراحل الصراع، أو على الأقل ستأتي لاحقا بعد جبهات الاقتصاد والسياسة والاستخبارات.
وبغض النظر عن سياق المواجهة ومراحلها وتتالي جبهاتها، يبدو أن لندن تريد المنافسة على قيادة هذه الحرب ولن تدخر جهدا في ذلك.
توجد نقمة بريطانية مستمرة على الروس منذ محاولتهم "تسميم" سيرغي سكريبال وابنته في مدينة سالزبري الإنجليزية عام 2018 -بحسب الرواية الإنجليزية- كما أن ريتشارد مور، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية يعتبر روسيا "في المرتبة الثانية بين أضخم التهديدات التي تواجه بلاده، وتشكل خطرا يفوق التنظيمات الإرهابية بكثير".
هذا العداء تستند إليه حكومة لندن اليوم في تبرير تصعيدها ضد موسكو أمام الرأي العام البريطاني، ولكنه لن يكون كافيا عندما ينتقل "جونسون" من الأقوال إلى الأفعال.. فالمواجهة مع روسيا، أيا كان شكلها، لن تكون نُزهة، ومهما بلغت المكاسب العلنية وغير العلنية لقيادة هذه المواجهة، فهي لن تُغري البرلمان والشعب إن كانت ستنتهي بوقوع حرب عالمية ثالثة تهدد الحضارة الإنسانية برمتها، كما توقع العالم ألبرت أينشتاين يوما ما.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة