ثلاثة تطورات في الملف الليبي برزت خلال الأسابيع القليلة الماضية أكدت صعوبة العبور الآمن نحو مرافئ الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
كل ذلك دون قرارات مسؤولة وخطوات جريئة تصحح المسار، وتفرض تغييراً عليه وتجعله قادراً على المضي قدما نحو هدف مشترك يجمع الليبيين ويوحد مؤسسات دولتهم.
التطور الأول تمثل في تعديل الإعلان الدستوري الذي ينص على حل الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، المنتخبة عام 2014، وتشكيل لجنة جديدة من مجلس النواب ومجلس الدولة إضافة للخبراء، للنظر في الدستور وتعديلاته وطرحه للاستفتاء.
من الطبيعي أن يكون هذا القرار نابعاً من القناعة بضرورة الأخذ بعين الاعتبار جملة التغيرات والتحولات التي شهدتها الساحة الليبية على أصعدتها المختلفة خلال السنوات الثماني المنصرمة من عمر اللجنة السابقة، ولَحْظ مستلزمات ومقتضيات الواقع والمستقبل المنظور ضمن التعديلات، بحيث تكون ملبية لاحتياجات الفرقاء وباعثة على الطمأنينة لدى الجميع، وهو بذلك يتطلب عملاً دؤوبا لإنجازه ووضعه على الطريق ليكون الدستورُ المنتظر حجرَ الرَّحَى في مجمل العملية السياسية خلال الفترة الانتقالية الجديدة، ولا يتحول الأمر إلى شماعة مؤقتة يستغلها طرف على حساب بقية الأطراف أو العكس.
التطور الثاني عندما أقر مجلس النواب مشروع قانون خارطة طريق تُمدد عمل مجلس النواب أربعة عشر شهراً إضافية على خلفية تعذر إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في 24 ديسمبر 2021، وبذلك لا يخرج هذا التوجه عن فهم وإدراك احتياجات التعديلات الدستورية إلى حاضنة السلطة التشريعية المخولة إقرار الدستور بعد استيفائه لشروط صلاحيته المرتبطة بالقوانين الناظمة للمجتمع الليبي ودولته.
التطوران السابقان جاءا، كما يبدو، تمهيداً لأكثر التوجهات عملياً نحو إحداث تغيير في مسار العملية السياسية، تمثل في اختيار البرلمان فتحي باشاغا، وزير الداخلية السابق، رئيسا للحكومة الجديدة خلفاً لعبد الحميد الدبيبة.
تنطوي الخطوة على عدد من الدلالات الهامة لمسيرة الانتقال الليبي بعد عشر سنوات ونيف من الصراعات الميدانية المسلحة، وما راكمته من ضغائن وتقلبات وانقسامات، وتدخلات خارجية أسهمت في تغذية تلك النزعات لدى البعض، وكادت أن تودي بالسلم الأهلي إلى الأبد. من هذه الدلالات أن اختيار "باشاغا" بدا تتويجاً لمصالحة تاريخية بين قادة غرب ليبيا وشرقها بعد موجات قتال وخصومة وعداء.
مصالحة تضع نهاية لتحدّييْن راهن عليهما، أو على أحدهما، تنظيم الإخوان، الأول داخلي حيث يسعون لإبقاء الانقسام الداخلي بين شرق ليبيا وغربها بكل حمولاته وتبعاته، والثاني خارجي حيث أثمرت المصالحة اتفاق سدّ النوافذ الليبية أمام رياح التدخل الخارجي بعد استدارة جميع الأطراف الفاعلة نحو مهمة إنجاح العملية السياسية بإرادة وقرار داخلي.
التجاذبات والصراعات المحلية أدخلت الحالة الليبية أكثر من مرة في خضم التسويف والمماطلة.
تأجيل الاستحقاقات الوطنية، وعلى رأسها مسألة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي كانت مقررة في نهاية ديسمبر الماضي، واحدة من تلك العينات.
الفراغ الناشئ عن تأجيل الانتخابات الرئاسية انعكس على أداء المؤسسات التشريعية والتنفيذية وأحدث نوعا من البلبلة والتشويش على أدوار الجميع.
لم تتوقف انعكاسات الفراغ على سجالات السلطتين التنفيذية والتشريعية فحسب، بل التقطتها بؤر مسلحة غير منضوية تحت راية السلطة الرسمية، مما حرض تنظيم الإخوان على استغلالها أملا في تحقيق مآربه الأساسية عبر إشاعة الفوضى مرة أخرى بين قطاعات الليبيين، والعزف على وتر الانقسامات التي تجاوزتها التطورات الإيجابية، السياسية والحزبية، بعد التوافقات والتفاهمات، التي أنجزتها حوارات الأطراف والأقطاب، تلك التي كانت بالأمس غير البعيد على غير وئام، لكنها وضعت مصالح ليبيا وشعبها في مقدمة أولوياتها فدشنت مرحلة جديدة مغايرة.
مرت ليبيا خلال السنوات الثلاث الماضية بمخاضات عسيرة وهي تشق طريقها نحو غد يتجاوز جراح الماضي ليؤسس للدولة/الوطن الرعاية لحقوق جميع أبنائها.. تعثرت حينا، وتلكأت أحيانا.. لم تفقد بوصلتها رغم تشعب الدروب ووعورتها.. برهنت على أن إعلاء مصلحة ليبيا والليبيين مدخل آمن ومضمون النتائج لما يصبو إليه الجميع.
المعوقات أمام الحكومة الجديدة كثيرة، وكذا المفخخات التي يزرعها أعداء السلم الأهلي، بيد أن وضوح الخيارات وصلابة الإرادة كفيلان بتذليل الصعاب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة