تركيا بدأت منذ الآن بقبول الهزيمة، على الأقل لأنها تقرأ مؤشراتها الأولى. فآثرت أن تبدأ بسحب مرتزقتها، لتدفع بهم إلى أتون جحيم آخر.
الجهود الرامية إلى إيجاد حل سياسي للأزمة في ليبيا، تقوم في النهاية على أساسين. انسحاب المرتزقة. وبناء سلطة انتقالية هدفها الرئيس، العودة إلى الشعب.
وهذان الهدفان يعنيان أن على تركيا أن تسحب مرتزقتها وتكف عن التصرف كقوة استعمارية في ليبيا. ولئن ظلت سلطة الرئيس رجب طيب أردوغان تتطلع إلى أن تكسب نفوذا عن طريق جماعات الإرهاب الإخوانية، لكي تفرض اتفاقات النهب والاستغلال التي وقعتها مع عملائها ومأجوريها، فإن الأمر سوف يعود في النهاية إلى الليبيين أنفسهم.
الواقع المعروف يقول إن جماعات الإرهاب الاخوانية، عندما تعرضت للهزيمة في الانتخابات التي أسفرت عن مجلس النواب الراهن، انقلبت على اتفاق الصخيرات، واستولت على السلطة في طرابلس بالقوة.
هذا الشيء لن يمكنه أن يتكرر. من ناحية، لأن أعين العالم كله تنصب على تنفيذ الاتفاق المزمع الذي سوف ترعاه الأمم المتحدة في جنيف منتصف الشهر الجاري. ومن ناحية أخرى، لأن هذا الاتفاق هو حصيلة جهد شاركت فيه مصر بمبادرة القاهرة، والمغرب بحوارات بوزنيقة، والولايات المتحدة بجهد ملموس من سفيرها في ليبيا ريتشارد نورلاند، وألمانيا باتفاق برلين الذي شارك في صياغته عدد من زعماء العالم، ومن بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يتخذ موقفا صارما من الأدوار الاستفزازية والعدوانية التي تمارسها تركيا، ليس في ليبيا وحدها بل وأيضا في كل مكان آخر.
نحن إذن أمام، إرادة دولية كبرى، سوف ترعى الاتفاق وتنفيذه. ليَصُح في النهاية ما هو صحيح فحسب. وهو أن الليبيين هم الذين سوف يقررون مصالح بلدهم، وهم الذين سوف ينتخبون ممثليهم. ولن يبقى فيه مكان لا لمرتزقة، ولا لمأجورين، ولا لمليشيات تحركها أصابع بين الدوحة وأنقرة.
كل ما يحرص عليه مرتزقة الدوحة وأنقرة الآن، هو أن يكون لهم نصيب في السلطة الانتقالية، وأن يفرضوا اتفاقاتهم المشينة مع أردوغان على شعبهم، إنما ليكشفوا عن طبيعتهم كعبيد يحرصون على رد الدين لسادتهم حتى ولو كان ذلك على حساب مصالح الشعب الليبي.
وهذا خيار لا أفق له. الليبيون ليسوا غافلين عن الطبيعة الاستغلالية البشعة التي وقفت وراء تلك الاتفاقات، ولا هم عُمي عن أعمال النهب التي أدت إلى ترحيل المليارات من الأموال في المصرف المركزي إلى تركيا. والتظاهرات التي خرجت في طرابلس ضد سلطة المليشيات، قالت الكثير عن الموقف الشعبي من تلك الجرائم.
الحصيلة بالنسبة لتركيا، كأي مشروع استعماري آخر، سوف تكون صفرا في النهاية، إلا ما تم نهبه بالفعل. وحتى هذا، فإن المطالبة باسترداده سوف تكون حقا مشروعا من حقوق الليبيين.
تركيا بدأت منذ الآن بقبول الهزيمة، على الأقل لأنها تقرأ مؤشراتها الأولى. فآثرت أن تبدأ بسحب مرتزقتها، لتدفع بهم إلى أتون جحيم آخر.
وفي خضم الدور الدولي للحل السياسي، فإن مشروع الهيمنة العثمانية على ليبيا، الذي استدعى استقدام أولئك المرتزقة، سقط من عليائه على رؤوس صانعيه.
في المسافة بين الطموح والنتيجة، أنفقت قطر عشرات المليارات لدعم الغراب وتمويل عملياته العسكرية في ليبيا. ولكنه يهيئ نفسه ليعود بخفي حنين.
وفي المسافة بين العام 2011 وحتى الآن، كانت قطر قد أنفقت على الغراب الآخر، من جماعات الإخوان الإرهابية، لتمويل مليشياتهم وتسليحها عشرات مليارات أخرى، لتحصد في النهاية الخراب والفشل.
المشكلة الأكبر، تلك التي لم يكن بوسع المُخيلة المريضة أن تدركها، هي أن الأدوات المليشياوية والغايات الاستعمارية لم تكن لتسفر عن بناء بلد، وإنما هدمه.
فالمليشيات تظل مليشيات في النهاية. وهذه لا يمكنها، بحسب طبيعتها بالذات، أن تبني دولة. وهي إذا كانت مليشيات ذات عقائدية متطرفة، فإنها لن تستقر ولن تدع شيئا من حولها يستقر، لأنها تتصارع مع الجميع ومع نفسها أيضا.
وحتى ولو كان الخراب والفشل هو مقصد المخيلة المريضة، باعتباره هدفا قائما بذاته، فانه لن يستمر إلى الأبد، ولن يثمر شيئا أكثر من الخزي لمدبريه.
المجتمع الوطني لا بد وأن ينهض ليطرد وباء التطرف والتمزق. والمجتمع الدولي لا بد وأن يدرك أن مصالحه تكمن في الاستقرار لا الفوضى، والغراب لا بد وأن يعود لأمه بما لا قيمة فيه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة