لماذا رفض الكثير من المراقبين والمحللين في تركيا وأمريكا أن تكون الحادثة مجرد قرار قضائي حسم موقفه وأطلق سراح القس بعد أدانته؟
اختلطت الأمور علينا في موضوع إطلاق سراح القس الأمريكي اندرو برونسون بهذا الشكل السريع والمفاجئ وحمل هذا التطور معه أسئلة ونقاشات كثيرة حول احتمال حدوث صفقة تركية أمريكية متعددة الجوانب بهدف إغلاق ملفات التوتر، ومحاولة فتح صفحة بين البلدين .
القس الأمريكي أُوقف واُعتقل وسُجن وحوكم بتهم دعم الإرهاب والتجسس على تركيا، والادعاء العام طلب 34 سنة سجن له في فذلكته. وبعد عامين من السجن والمحاكمات وبشكل دراماتيكي سريع صدر الحكم بسجنه لمدة 3 سنوات، وتم الإفراج عنه بعد أخذ المدة التي أمضاها في السجن بعين الاعتبار. ركب طائرة خاصة نقلته إلى خارج تركيا وخلال 24 ساعة كان الرئيس الأمريكي ترامب يستقبله في البيت الأبيض ليعلن انتصار فريق عمله في هذا الإنجاز الكبير .
ملف برونسون كان مرشحا لإشعال فتيل الانفجار في العلاقات التركية الأمريكية، ومركز الثقل فيه كان إفادات الشهود السريين الذين تحدثوا عن اتصالاته ولقاءاته وتحركاته المشبوهة؛ لكنهم وبقدرة قادر عادوا ليعلنوا أنه أسيئ فهمهم وأنهم لم يقصدوا ما قالوه
لماذا رفض الكثير من المراقبين والمحللين والسياسيين في تركيا وأمريكا أن تكون الحادثة مجرد قرار قضائي حسم موقفه، وأطلق سراح القس بعد إدانته بدعم تنظيمات إرهابية ورد تهم التجسس التي وجهت إليه؟
لأن:
- الرئيس الأمريكي شكر الرئيس التركي على "جهوده التي بذلها من أجل تأمين الإفراج عن برونسون" رغم أن أردوغان رد عليه بأن القضاء التركي اتخذ قراراً مستقلاً.
- ولأن هناك من يردد أن مساومة تمت حول مسألة القس قد تهدئ الضغوط الأمريكية على أنقرة لبعض الوقت، لكن واشنطن وكما ألمح مستشار الأمن القومي جون بولتون لن تلين من مواقفها، فجبهة الرفض ما زالت قوية وهي لن تتراجع عن مطالبة الرئيس التركي بتنازلات جديدة، فبعد ساعات فقط من الإعلان عن قرار المحكمة التركية طالب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أنقرة بإطلاق سراح مواطنين أمريكيين آخرين لا تزال تعتقلهم.
- ولأننا سمعنا الكثير من الأصوات الأمريكية التي لا تزال تردد أن واشنطن لن تغفر لأردوغان تحديه لواشنطن واستهداف النفوذ، والدور الأمريكي في المنطقة ورفض القطيعة مع روسيا وإيران في أكثر من ملف إقليمي . وتمسك البيت الابيض بأوراق ضغط كثيرة يملكها ضد أنقرة، وفي مقدمتها ملفات منبج وشرق الفرات وإصراره على الجلوس أمام اية طاولة تعد لمناقشة التسويات في سوريا.
الادعاء العام كان قبل عامين يطالب ب15 عاما من السجن لبرونسون بتهمة دعم الإرهاب و20 عاما بتهم التجسس لكنه عاد وأعلن أنه سيقوم بمراجعة فذلكته التي أسقط منها الكثير من الأدلة والمطالب .
لا أحد يتحدث اليوم عن حملات التعبئة والتجييش ضد القس برونسون وما يعد له في أزمير من " استهداف للأمن القومي التركي".
ولا أحد يعرف إذا ما كانت المحكمة أو الادعاء العام سيطالب بمحاكمة الشهود السريين الذي بدلوا من إفاداتهم في آخر لحظة، وأسقطوا كل أسس القضية بمثل هذه البساطة .
ملف برونسون كان مرشحا لإشعال فتيل الانفجار في العلاقات التركية الأمريكية، ومركز الثقل فيه كان إفادات الشهود السريين الذين تحدثوا عن اتصالاته ولقاءاته وتحركاته المشبوهة؛ لكنهم وبقدرة قادر عادوا ليعلنوا أنه أسيئ فهمهم وأنهم لم يقصدوا ما قالوه .
إخلاء سبيل برونسون وسط كل هذه الضجة في مسار العلاقات التركية الأمريكية لا يمكن أن يسقط بسهولة احتمالات وجود مساومات تمت وستتم خلف الأبواب المغلقة. فالبعض من المقربين إلى حكومة العدالة والتنمية يسأل ما الذي كنا سنفعله لو تفاقمت الأزمة اكثر من ذلك، ولو أن القس لم يطلق سراحه وارتفع الدولار إلى 7 ليرات وحتى 8 أو 9 ليرات؟ وهل الأهم هو إخلاء سبيل القس، أم تطهير منبج وشرق الفرات من "قوات سوريا الديمقراطية"؟
رئيس اتحاد رجال الأعمال الأمريكيين والأتراك يراهن وبعد إطلاق سراح القس على تحسن العلاقات بين البلدين وعودة مليارات الدولارات الأمريكية للاستثمار في تركيا. لكن هناك حقائق أخرى تقول إن إغلاق ملف القضية لن يذلل جميع العقبات بمثل هذه السهولة والبساطة على مستوى الداخل التركي؛ وعلى صعيد العلاقات التركية الأمريكية، وأن البعض يستعد لمساءلة "ما دمتم ستخلون سبيل القس، لماذا أوصلتم الاقتصاد إلى هذا الحال؟ لماذا تسببتم بزيادة أسعار الدولار وبرفع نسب الفائدة؟ "
"جردة" تحديد الأرباح والخسائر في قضية القس برونسون ستكون موجعة على الكثير من المحللين والإعلاميين المقربين من حزب العدالة والتنمية . أين سيناريوهات انتمائه إلى فرق التجسس الخاصة الأمريكية؟ واتهامات تحركه لبناء خلايا تستهدف أمن واستقرار البلاد وإشعال الفتن الداخلية؟
ربما زعيم حزب "الحركة القومية" اليميني وحليف حزب أردوغان من خارج الحكم دولت بهشلي أوجز شعور الكثيرين في تركيا حول الصدمة وخيبة الأمل .
البعض في أنقرة أعطى ترامب أكثر مما كان يمني النفس به بعد قرار الإفراج عن القس؛ فهو سيدخل الشهر المقبل الانتخايات الجزئية في أمريكا وبيده ورقة انتخابية هامة فهل سيرد الجميل؟
والواضح هو أن البعض في أنقرة أيضا بدأ يتقبل حقيقة تسلم الصقور لمهام صناعة القرار في البيت الأبيض، وأن ترامب لن يتراجع عن أسلوب التصعيد وتضييق الخناق على السياسة التركية الإقليمية ومحاصرتها. وأن معادلة "خذ قسك واعطنا قسنا" تراجعت تماما لصالح أولوية أخرى في تركيا هي الأزمة المالية الاقتصادية وسعر صرف الليرة أمام الدولار وأرقام البورصة في إسطنبول.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة