ويمكن الرجوع بالزمن أيضا إلى عشر سنوات ماضية خلال التحقيق في أشهر القضايا التي عرفتها المحاكم التركية وهي المخطط الانقلابي "أرغاناكون".
لطالما كانت وسيلة التسريبات الإعلامية من مصدر أمني مجهول سلاحا مهما استخدمته الحكومات التركية المتعاقبة على مدى العقود الماضية. على أن هذه التسريبات في مجملها اتسمت بالتضارب والمعلومات المغلوطة من أجل تحقيق أهداف سياسية بحتة؛ والتأثير في الرأي العام بالاتجاه الذي تريده الحكومة.
تستمر الآلة الإعلامية لقطر وتيار جماعة الإخوان الإرهابي في تغذية هذه التسريبات المشكوك في صحتها والمتضاربة، وتحويلها إلى مادة لتغذية الرأي العام العالمي ضد المملكة العربية السعودية
الحديث هنا عن هذا السلاح يأتي بسبب هذا السيل من المعلومات التي نشرتها الصحف المقربة من الحكومة التركية مؤخرا حول قضية اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول، والذي أثار بلبلة كبيرة كان الهدف منها الضغط على الحكومة السعودية، وتوفير مناخ دولي يضع الرياض في خانة الاتهام رغم عدم وجود أي تحقيق جنائي في القضية حتى الآن.
الأمثلة في هذا الإطار لا يمكن حصرها لكثرتها، ولكن نورد الأشهر منها وما بقي منها في الأذهان حيا. فمثلا انشغلت الصحف التركية الكبرى بنشر تسريبات مزعومة عن التحقيقات الأولية مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان عقب اعتقاله عام 1999. وهنا يجب أن نستذكر أن عملية اختطاف أوجلان تمت أيضا داخل سفارة أجنبية في العاصمة الكينية نيروبي، حيث تم تخديره داخل أو عند خروجه من السفارة اليونانية هناك – حسب الروايات المتناقلة – وتسليمه لطائرة خاصة فيها رجال من المخابرات التركية. ورغم أن العملية انتهكت سيادة كينيا وحرمة السفارة اليونانية، إلا أن أحدا لم يطالب حينها بتحقيق دولي أو بمعاقبة من قاموا بهذه العملية. وترك الشارع الكردي يغلي في العديد من دول العالم دون أن يحرك أحد ساكنا، على أهمية الشخصية التي تم اختطافها والتي وإن تم تصنيفها لدى بعض الدول بأنها إرهابية، إلا أن دولا أخرى – مثل اليونان وإيطاليا مثلا – تعاملت مع أوجلان على اعتباره زعيما معارضا ثائرا، تعاون مع العديد من الحكومات الأجنبية ضد تركيا.
يذكر الأتراك هنا خروج صحيفة حرييات بتسريبات صحفية من مصدر أمني مجهول نقلت ما قالت إنه اعترافات أولية لعبدالله أوجلان تورط عددا من الدول والشخصيات في دعمه وتحملها مسؤولية العديد من العمليات الإرهابية التي وقعت في تركيا. وبقدر ما حققت هذه التسريبات حينها الهدف المطلوب وهو الضغط على هذه الدول والشخصيات سياسيا ودوليا، إلا أن الزمن كان كفيلا بعدها بسنوات لتكشف الصحيفة أن هذه التسريبات التي تم نشرها جاءت من جنرال في الجيش أعطاها للصحيفة لهذا الهدف، وكانت غير صحيحة بالمرة.
ويمكن الرجوع بالزمن أيضا إلى عشر سنوات ماضية خلال التحقيق في أشهر القضايا التي عرفتها المحاكم التركية؛ وهي قضايا المخطط الانقلابي المعروف بقضية "أرغاناكون"، حيث تم إلقاء القبض على مئات الضباط حينها بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري، كان بينهم الرئيس السابق لهيئة الأركان. ونشر الإعلام التركي حينها المئات من الأخبار المسربة عن تورط هؤلاء بالدليل القاطع في التخطيط للانقلاب، بل تم نشر وثيقة تحمل خطة الانقلاب عليها توقيع أحد الضباط المتهمين، بالإضافة إلى وثائق عسكرية بأوامر اغتيالات سياسية. وبعد إغلاق ملف القضية بسنوات تمت إعادة فتحها مجددا أمام محاكم جديدة، ليتم تبرئة معظم المتهمين، والقول بأن جميع الأدلة التي تم نشرها وجمعها وتقديمها للمحكمة، كانت مفبركة من قبل جماعة فتح الله جولن التي قيل إنها حصلت على أجهزة تكنولوجية متقدمة مكنتها من تزوير تواقيع الضباط على أوامر القتل تلك ومخطط الانقلاب. وقيل أن جماعة فتح الله جولن كانت وراء ذلك التلفيق الكبير من خلال رجالها العاملين في الأمن والقضاء، وتم الزج بجميع الذين حاكموا الجنرالات في السجن هذه المرة.
وحديثا في قضية القس الأميركي أندرو برونسون الذي تم اعتقاله بالعديد من التهم قبل الإفراج عنه بضغط أميركي قبل أيام، تابع الشارع التركي على مدى عامين كاملين تسريبات صحفية من مصدر أمني، بالصور والوثائق وشهادات الشهود، تثبت تورط الراهب بالتجسس على تركيا وإدارته شبكة تجسس، وتواصله مع قيادات من جماعة فتح الله جولن المصنفة إرهابيا في تركيا ومساعدته في التخطيط للمحاولة الانقلابية الفاشلة، ناهيك عن تواصله مع حزب العمال الكردستاني ودعمه لإنشاء دولة كردية في جنوب شرق تركيا. بل ظهرت في الإعلام الموالي للحكومة صور لشبيه للقس من الجنود الأميركيين يحمل بيديه سبائك من الذهب، وقيل إن هذه الصورة المزيفة هي للراهب برونسون، وأنها تكشف أنه كان ضابطا في الجيش الأميركي؛ وشارك في عملية غزو العراق وسرقة البنك المركزي العراقي هناك عام 2003. وبعد كل هذه التسريبات المكثفة على مدى عامين كاملين، والتي أقنعت جزءا كبيرا من الشارع التركي بتورط الراهب الأميركي في هذه التهم، جاءت الجلسة الأخيرة من محاكمته لتشهد مشهدا غريبا، حيث تم استبدال المدعي العام الذي كتب عريضة التهم، ليطالب المدعي العام الجديد بإطلاق سراح القس الأميركي، كما غير أربعة شهود شهاداتهم في القضية بشكل مفاجئ، وقالوا إن شهاداتهم فهمت خطأ، بل إن أحد هؤلاء الشهود قال إنه لا يعلم شيئا عن شهادته السابقة التي تم نشرها ضمن تلك التسريبات الأمنية، وقال إنه قرأها في الإعلام. لينتهي الأمر بالإفراج عن القس الأميركي بعد الحكم عليه بالحبس ثلاث سنوات قضى معظمها أثناء المحاكمة، وتثبيت تهمة الجاسوسية عليه، مما أثار حيرة كبيرة حول هذا الحكم، فكيف يمكن تثبيت تهمة الجاسوسية عليه والاكتفاء بحبسه ثلاثة أعوام فقط يخرج بعدها طليقا ليسافر إلى بلاده في اليوم التالي من الجلسة.
تقول المعارضة التركية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي إن مؤسسة القضاء التركية تعاني من خلل كبير وتسييس يلقي بظلال قاتمة من الشك على قراراته، كما يعترف الرئيس التركي أردوغان نفسه بأن مؤسسة القضاء بحاجة إلى إصلاحات كبيرة. لكن الغريب أن هذا كله يتم تجاهله وتناسيه في التعاطي حاليا مع ملف جمال خاشقجي، وكأن سلاح التسريبات الإعلامية لم يستخدم سابقا في تركيا، ولم يظهر بالدليل القاطع أن معظم التسريبات التي تظهر في الصحف تكون غير صحيحة وملفقة من أجل هدف سياسي مؤقت. وقد بدأ يظهر الآن تضارب كبير في المعلومات المسربة إعلاميا في هذه القضية، بل ومن قبل وسائل إعلام محسوبة على الحكومة أيضا. إذ فنّدت قناة تي أر تي وورلد الحكومية الناطقة بالإنجليزية قصة تسجيل ساعة جمال خاشقجي لما حدث معه في القنصلية صوتا وصورة، كما خرجت صحيفة حرييات التي اشتراها قبل عدة أشهر رجل أعمال مقرب من الرئيس أردوغان لتكشف أن بعض صور من تم تقديمهم على أنهم الوفد الأمني السعودي الذي حضر بطائرة خاصة إلى إسطنبول هي صور قديمة وغير صحيحة. ورغم ذلك تستمر الآلة الإعلامية لقطر وتيار جماعة الإخوان الإرهابي في تغذية هذه التسريبات المشكوك في صحتها والمتضاربة، وتحويلها إلى مادة لتغذية الرأي العام العالمي ضد المملكة العربية السعودية.
هذه التيارات فسرت تعامل المملكة بهدوء وانضباط مع ملف هذه القضية ضعفا، وهو تفسير خاطئ فنده بيان السعودية الأخير الذي خرج قويا متوعدا كل من يحاول النيل من سمعتها ومكانتها في المنطقة والعالم.
وحسنا فعلت الرياض بإصدار هذا البيان والتصدي لهذه المحاولات العقيمة بحزم وتصميم، لتثبت أن حبل الكذب قصير وأن المملكة ليست لقمة سائغة لضباع الإعلام والموتورين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة