مقهى "العقاقنة" في الجزائر.. لا صوت يعلو على لغة الإشارة
المقهى يعود إلى أربعينيات القرن الماضي، وتم إغلاقه لأسباب مجهولة منذ سنوات بعد استقلال الجزائر عام 1962، ليعاد افتتاحه في 1973.
تتميز الجزائر بكثرة المقاهي الشعبية في مختلف مدنها والمرتكزة أساساً في أحيائها الشعبية العريقة، والتي تعتبر مقصداً لكثير من الجزائريين خاصة الشباب منهم.
- "مقهى أم كلثوم".. رحلة ساحرة إلى زمن "كوكب الشرق" وقمم الفن
- "الحديقة السرية".. مقهى إماراتي مستوحى من رواية عالمية
وتشتهر تلك المقاهي بضوضائها، فهي مكان لتبادل أطراف الحديث، وعلى كل طاولة مختلف المواضيع التي تهم الجزائريين، ويتحول معها النقاش عادة "على طاولة المحادثات" إلى جدال بأصوات عالية تُسمع خارج جدران المقهى.
وهناك مقهى شعبي في الجزائر قد لا يعرفه المار بجانبه أو لا ينتبه له، رغم كثرة مرتاديه، والسر في ذلك أنه "المنزل الثاني" لأصحاب الهمم من الصم والبكم، وهو مقهى "العقاقنة".
الإشارة.. اللغة الوحيدة في المقهى الشعبي
يعود إنشاء مقهى "العقاقنة" إلى أربعينيات القرن الماضي كما كشف عز الدين واري مترجم لغة الإشارة لـ"العين الإخبارية"، ليكون بذلك أول وأقدم مقهى للصم والبكم في الجزائر.
وأغلق المقهى لأسباب مجهولة منذ سنوات بعد استقلال الجزائر 1962، قبل إعادة افتتاحه عام 1973، ومنذ ذلك الوقت بات مقصد أصحاب لغة الإشارة من مختلف محافظات الجزائر وعلى اختلاف أجيالهم، وهو اليوم تابع للمنظمة الجزائرية للصم والبكم.
ويوجد بالجزائر قرابة 80 ألف شخص من أصحاب الهمم من الصم والبكم بحسب إحصائيات الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان لعام 2018، والتي أفادت بأن 10% من الجزائريين من أصحاب الهمم، أي ما يقارب 4 ملايين معاق.
وفي ذلك المقهى الشعبي، لا لغة "معترف بها" إلا لغة الإشارة، فتجدهم يتبادلون أطراف الحديث بحركات اليد في هدوء تام من أمام المقهى إلى داخله، كما يرتاده أيضا "الناطقون" الذين يفضلون ارتشاف القهوة في ذلك الهدوء المفروض داخل المقهى الذي يمثل عالم الصم والبكم الخاص.
وعند الجلوس داخل المقهى لتأمل عالمهم، يجد "الناطق" صعوبة في فك شفرته، وقد يعود ذلك إلى صعوبة فهم لغتهم، أو لسلوكهم الراقي في التعامل مع الناس وابتسامتهم في وجوه الناس، أو لهندامهم الأنيق، وإن كان ذلك يخفي من ورائه معاناة صامتة لا يسمعها إلا فاقد السمع عن طريق لغة الإشارة كما قال عز الدين واري لـ"العين الإخبارية".
بيد أن التأمل في جو الحميمية الذي يجمع بين من في ذلك المكان، ينسي "الناطق" لوهلة أنه في مقهى شعبي بديكور قديم تجاوزه الزمن، حيث إنه أشبه بمنزل عائلي يتوفر فيه الدفء والحنان والطيبة والبساطة بين أجيال مختلفة من الصم والبكم.
فلاح عقلي واحد من عمال المقهى والمشرف على تحضير القهوة (تسمى في الجزائر "عصر القهوة")، وهو من الصم والبكم، ويطلق على ذلك "المنصب" في العامية الجزائرية "الرايس".
"فلاح" البالغ من العمر 74 عاماً، وله شقيق آخر من الصم والبكم أيضا، يعمل أيضا في المكان نفسه، روى لـ"العين الإخبارية" قصته مع هذا المقهى الذي بات مصدراً لرزقه، حيث يقول إنه عمل لأكثر من ربع قرن في مهنة اللحامة، وبعد تقاعده فضل عدم البقاء في المنزل أو أن يكون روتين يوميات تقاعده مثل بقية متقاعدي الجزائر، بين الأسواق والمقاهي والمنزل، فقرر العمل في مقهى يفهمه، فيه محيطه وزبائنه.
ويرى "فلاح" أن دور المقهى بات اليوم أكثر أهمية من ذي قبل، مرجعاً ذلك إلى الأجيال الجديدة من الصم والبكم، الذين يحمل غالبيتهم شهادات جامعية أو من معاهد التكوين.
مواقع التواصل الاجتماعي.. وسيلة الصم والبكم المفضلة
وكشف أن سر التواصل الجديد بين الصم والبكم من مختلف مناطق الجزائر يعود إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي أسهمت بشكل كبير في فك عزلة فئة ما زالت مهمشة اجتماعيا، بل وحتى مستهدفة من "مجتمع صعب" كما يرى "فلاح".
ويرى أن الجيل الجديد أكثر تعلماً من القديم، إلا أن الأجيال الأولى من الصم والبكم عرفوا كيف يستفيدون من المهن التي تعلموها، وباتت مصدر رزقهم، مشيرا إلى أن الأجيال الحالية تجد صعوبة في فرض نفسها داخل مجتمع تتباين نظرته لهم، وكذلك طريقة معاملته.
صعوبة الاندماج مع المجتمع
وتحمل نظرة الجيل القديم للجديد من الصم والبكم في طياتها كثيراً من الخوف وقليلاً من العتب، إذ يقول "الرايس فلاح": "جيلنا كان متحداً، أما أجيال اليوم فتجدهم في غالب الأحيان أشخاصاً معقدين وعصبيين".
وإذا كانت منصات التواصل قد أسهمت في تعارف الصم والبكم الجزائريين من مختلف المناطق وفي حل كثير من مشاكلهم، إلا أنها عادت بالسلب على استعمال لغة الإشارة وفق رؤية فلاح عقلي.
وبنظرة العارف بخبايا عالم الصم والبكم، يقول "فلاح" إن "مواقع التواصل الاجتماعي جعلت الجيل الجديد من الصم والبكم يخجلون من استعمال لغة الإشارة في مجتمعهم، وباتو يستعملونها فقط من خلال دردشاتهم المرئية عبر شبكات التواصل".
ويلقي فلاح باللوم في ذلك على نظرة وسلوك المجتمع مع هذا النوع من ذوي الاحتياجات الخاصة، ويصفه بـ"المجتمع الصعب".
aXA6IDMuMTM4LjEyNi41MSA=
جزيرة ام اند امز