لو طرحت هذا السؤال على الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن لأجاب بالإيجاب لسبب بسيط أنه ألف كتاباً كاملاً في الموضوع تحت عنوان «روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية».
لو طرحت هذا السؤال على الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن لأجاب بالإيجاب لسبب بسيط أنه ألف كتاباً كاملاً في الموضوع تحت عنوان «روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية».
وهو بعد أن قام بشرح أسس الحداثة الغربية كما فهمها، وهي تلك التي أوجزنا الإشارة إليها في مقالنا الماضي تطرق في ثلاثة أبواب متتابعة إلى التطبيق الإسلامي لمبدأ النقد الذاتي، والتطبيق الإسلامي لمبدأ الرشد الحداثي وأخيراً التطبيق الإسلامي لمبدأ الشمول الحداثي.
في مجال التطبيق الإسلامي لمبدأ النقد الذاتي وهو موضوع الباب الأول، اختار الدكتور طه عبدالرحمن منهجاً محدداً كأساس لأطروحاته الحداثية الإسلامية وهو اختيار عدد محدود من المجالات التي غمرتها روح الحداثة الغربية لبيان أن المنهج الإسلامي، إن صح التعبير، أقوَم في التعبير عن روح الحداثة.
وأول هذه المجالات هو العولمة. ولا شك في أن الدكتور طه عبدالرحمن كان موفقاً في البدء بالعولمة، لأننا نعيش في الواقع عصر العولمة، خصوصاً بعد أن تم الانتقال من المجتمع الصناعي الرأسمالي الذي كانت حرية السوق هي المفتاح الأساسي له إلى مجتمع المعلومات العالمي، والذي تقوم وحدة التحليل فيه على ما يسمى الفضاء المعلوماتي Cyber space بعد أن قامت الثورة الاتصالية الكبرى، وفي قلبها البث التلفزيوني الفضائي الذي حول العالم بالفعل إلى قرية صغيرة، إضافة إلى اختراع شبكة «الإنترنت» التي أصبحت أهم وسيلة عالمية للاتصال بين الأفراد والمؤسسات والشعوب والثقافات. وكان منطقياً، في إطار تعدد تعريفات العولمة، أن يحدد الدكتور طه عبدالرحمن تعريفه هو للعولمة الذي جاء كما يأتي: «العولمة هي تفعيل العالم بما يجعله يتحول إلى مجال واحد من العلاقات بين المجتمعات والأفراد عن طريق سيطرات ثلاث: سيطرة الاقتصاد في حقل التنمية. وسيطرة التقنية في حقل العلم، وسيطرة الشبكة في حقل الاتصال».
وعلى رغم قصور هذا التعريف لأن لدينا تعريفاً أوفى يركز على سرعة تدفق الأفكار ورؤوس الأموال والبشر من مكان إلى مكان آخر في العالم «إلا أننا نقبل بتعريف الدكتور طه عبدالرحمن حتى نيسر المناقشة».
وهو يتقدم بأفكاره عن الحداثة الإسلامية حين يناقش أولاً سيطرة الاقتصاد في حقل التنمية والإخلال بمبدأ «التزكية».
وهو يقوم بعملية نقد رصينة للاقتصاد الرأسمالي قبل أن يعرف مبدأ «التزكية» الذي يقترحه وبمقتضاه أنه يشترط في المنفعة أن تصلح بها حال الإنسان سواء كانت مادية أم معنوية، وإصلاح هذه الحال بغير زيادة في إنسانيته بمعنى أخلاقياته. فكأنه يريد أن يضيف مبدأ أخلاقياً للتنمية الاقتصادية. أما سيطرة التقنية في مجال العلم والإخلال بمبدأ العمل فهو يوجه النقد إلى هذه السيطرة على العلم بحيث أنه إذا ما تزايدت تطبيقاتها بغير رابط أخلاقي فإنها يمكن أن تهدد مستقبل الإنسان.
وفي تقديرنا، أن هذا لا يجوز أن نطلق عليه مبدأ إسلامياً للحداثة، لأن علماء غربيين عدة يوجهون النقد إلى انفلات عقد التكنولوجيا، خصوصاً في مجالين هما القدرة على التلاعب بالجنس البشري، والمجال الثاني إمكان خلق «روبوتات» أذكى من الإنسان وقد تخرج عن سيطرته.
أما المجال الثالث وهو سيطرة «الشبكة» في حقل الاتصال والإخلال بمبدأ التواصل، فيتضمن حقيقة إشكاليات خطيرة أهمها ضعف المحتوى الرقمي العربي للإنترنت، ما يجعلنا مجرد مستقبلين لا مبدعين، والإشكالية الأخرى الخطيرة هي مبدأ أصبح ذائعاً وهو أن المعلومات لا تكون بالضرورة معرفة. لأن المعرفة تقتضي في المقام الأول عقلاً نقدياً قادراً على التمييز بين الزائف والحقيقي، والمتناسق والمتناقض.
ونختلف هنا مع الدكتور طه عبدالرحمن لأن نقده الذي يزعم أنه «إسلامي» سبق لكثر من علماء الإنترنت سواء الغربيين أو العرب أن أشاروا إليه.
ثم ينتقل الدكتور طه عبدالرحمن لمناقشة نظام «الأسرة الغربية»، وفي هذا الفصل بالذات يسرف المؤلف في نقدها وتأكيد عدد من المبادئ الإسلامية التي قد لا تتفق مع بناء المجتمع الغربي ولا تطوره الأخلاقي.
وينتقل الدكتور طه عبدالرحمن في الباب الثاني إلى التطبيق الإسلامي لمبدأ «الرشد الحداثي»، وهو يدرس الترجمة الحداثية والاستقلال المسؤول بصورة تفصيلية لا نستطيع بحكم الحيز المحدود التطرق إليها، غير أن أهم النتائج التي توصل إليها أن المسلم العربي اللسان الذي يدخل إلى عالم الحداثة من طريق تجدد اتصاله بالآخر من طريق الترجمة، عليه أن يلتفت إلى ألا تكون ممارسته الترجمة دخولاً في الحقيقة للأصول المعقولة.
والواقع أننا تعبنا من تردد كلمة التبعية في النقد الإسلامي الحضارةَ الغربية، لأن ما يجمع بين الثقافات يجوز أنه أكبر مما يفرق بينها. ويكفي أن نشير إلى أن الغربيين الذي كانوا يعيشون في ثقافة القرون الوسطى أرسلوا البعثات إلى الأندلس في عصر ازدهارها الثقافي لتعلم اللغة العربية وترجمة المخطوطات العربية إلى اللاتينية ولم يتهمهم أحد بأنهم مارسوا نوعاً من أنواع التبعية! هناك ولا شك في ذلك تأثيرات متبادلة بين الثقافات المختلفة لا يجوز وصفها بأنها «تبعية» أو «تغريبية» كما يشيع هذا الوصف في النقد الأيديولوجي العربي المعاصر.
ثم ينتقل الدكتور طه عبدالرحمن في الفصل الرابع إلى موضوع بالغ الحساسية وهو القراءة الحداثية للقرآن والإبداع الموصول. وهو ينقد نقداً عنيفاً ما يطلق عليه القراءات الحداثية للقرآن ويرفضها لأنها ليست تطبيقاً مباشراً «لروح الحداثة» وإنما تقليد لتطبيق سابق وهو التطبيق الغربي المتمثل في «واقع الحداثة» والتي هي في تعريفه تحقق القيم والمبادئ في زمان مخصوص ومكان مخصوص.
والواقع أن الدكتور طه عبدالرحمن أراد بعبارة واحدة أن يمحو القيمة الفعلية للقراءات الحداثية للقرآن، والتي قام بها مفكرون عرب ساهموا في النصف الثاني من القرن العشرين على «تثوير» فهمنا للقرآن وفي مقدمهم الجزائري الدكتور محمد أركون الذي كان أستاذاً لامعاً في السوربون، والمغربي الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه عن «القرآن الكريم»، والمصري الدكتور نصر حامد أبو زيد الذي قام بثورة فكرية في كتاب مفهوم النص.
بعبارة أخرى يمارس الدكتور طه عبدالرحمن نقداً تقليدياً لهذه المحاولات، ويريد أن يحصر تفسير القرآن في التفاسير القديمة التي مضى أوانها بعد أن تقدمت علوم اللغة والنص في شكل أصبح من الضروري الاستعانة بها لفهم النص القرآني.
ونصل أخيراً إلى الباب الثالث وموضوعه التطبيق الإسلامي لمبدأ الشمول الحداثي ليفاجئنا الدكتور طه عبدالرحمن في مناقشته مفهومَ «المواطنة» الذي أصبح مستقراً في الفكر القانوني المعاصر وفي دساتير كثير من الدول، ومن بينها بعض الدول العربية أن يقترح بدلاً من الحديث عن «المواطنة» الحديث عن «المؤاخاة» و «التراحم». وهذا في حد ذاته رجوع غير محمود بمفهوم المواطنة باعتباره مفهوماً قانونياً وحقاً دستورياً ليصبح صفة أخلاقية مانعة ليس لها مدلول محدد.
وأحس أنه آن الأوان لكي نقوم بتقويم إجمالي لمحاولة الدكتور طه عبدالرحمن تأسيس «حداثة إسلامية» فنقول أنها محاولة تقليدية قنعت باجترار بعض المعاني الإسلامية القديمة ونقد بعض المعاني الغربية الحديثة غير أنها فشلت في الواقع فشلاً بارزاً في تجديد الفكر العربي في هذا الموضوع البالغ الأهمية لأن الدكتور طه عبدالرحمن يدور في دائرة مغلقة من الفكر التقليدي الذي لا يلقي بالاً للتطورات الحضارية الكبرى في القرن الحادي والعشرين.
نقلاً عن " الحياة "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة