غازيان، على الأقل، في التاريخ المعروف للإنسانية، يمكن القول أن غزوهما كان مختلفًا، الى حد ما،
غازيان، على الأقل، في التاريخ المعروف للإنسانية، يمكن القول أن غزوهما كان مختلفًا، الى حد ما، عما عرفته هذه الإنسانية من غزوات: الاسكندر المقدوني وبونابرت. صحيح أن غزويهما، كانا، من الناحية المبدئية، مثل أي غزو آخر، فحواه احتلال أراض ليست لهما، وفي مناطق تبعد كثيرًا عن ديارهما. وصحيح أن كًلا منهما كان يتطّلع، على طريقته، الى أن ينتج غزوه بلاد الآخرين، تشكيل إمبراطورية لا تغيب الشمس عنها. وهو ما يريده الغزاة دائمًا حين يغزون. غير أن ما يتفرد به هذان، مع فارق الزمن الطويل الذين يفصل بين مغامرتيهما، أن كًلا منهما جعل جانبًا أساسيًا من غزوته، يرتبط بفعل حضاري معّين، ولا يتوخى، في نهاية الأمر، أن يفرض على المناطق المغزّوة وعلى شعوبها، ذلك القسر الأيديولوجي سواء كان دينيًا أو غير ديني. كما أن كًلا منهما لم يكن يريد – أو هذا ما كان يعلنه على الأقل – نهب ثروات الشعوب التي يحتل أراضيها بل دمجها في مشروع كوزموبوليتي شامل مبني على فعل حضاري وتلاقح ثقافي قد يجد إنكارًا له من لدن البعض، لكن التاريخ أثبت أنه صحيح. وأن كًلا من الغازيين كان صادقًا في مشروعه، وأنه، في شكل أو في آخر، جعل من الغزو أداة لتعليم نفسه وشعبه بقدر ما جعل منه محاولة لـ»فرض» أفكار جديدة على المغزّوين، لا تستعبدهم، ولا ترهنهم للمركز الذي يمثله هو، بقدر ما تقيم نوعًا من التلاحم بين المركز والأطراف. صحيح أن المرء في حاجة الى امتلاك أطيب النوايا كي يصدق هذا، لكنها على الأقل صورة نقلها إلينا التاريخ في المرتين، ويجدر بنا أن نتعامل معها، ولو بقدر مبالغ فيه من البرود. لا سيما أننا نعرف أن وراء مشروع الاسكندر كان هناك، وإن من بعيد، أرسطوطاليس، ذلك الفيلسوف الذي كان واحدًا من أكبر الذين أنجبتهم البشرية، وأن المفكرين والفنانين والعلماء وحتى الأدباء قد رافقوا الجنرال الكورسيكي الشاب، حقًا في حملته واعتاد هو أن يبّديهم على الآخرين وأن يأخذ بمشورتهم.
بل إن ما ينبغي التوقف عنده، أكثر، في صدد حملة بونابرت، وإن كانت في نهاية أمرها استعمارية في جانب أساسي منها، هو النتائج الفكرية التي أسفرت عنها، حتى من بعد ما أخفقت الحملة العسكرية وُهزم صاحبها شر هزيمة. وليس كتاب «وصف مصر» وكل ما يتعلق به، واكتشاف اللغة الهيروغليفية ومشروع شق قناة السويس، وإعادة الاعتبار الى آثار مصر الفرعونية، ناهيك بالتأثيرات المباشرة وغير المباشرة، التي أوصلت الى الفكر العربي ككل، نوعًا من حداثة دفعته بالتدريج الى دخول زمن العالم. والحقيقة، أننا لو بدأنا نضع لائحة بالمكتسبات المتحققة، محليًا هنا، من الحملة البونابرتية، لما كفت هذه العجالة.
لذا نكتفي بالإشارة هذه، محاولين أن نلقي ضوءًا ما، إذ بات الناس جميعًا يعرفون كل ما يمكن قوله عن «وصف مصر» وكل ما يحيط به على الخلفية المؤسساتية التي تقف خلف ذلك المشروع الفكري الذي لا يزال أساسيًا حتى اليوم، ونعني بذلك «معهد مصر»، الذي شرع بونابرت بتأسيسه ما إن خيل إليه أن الأحوال قد استقرت له في القاهرة. وهو لهذا، جمع من حوله يوم الرابع من شهر فروكتيدور (21 آب/ أغسطس) من العام 1879 ،عددًا من معاونيه في مجالات متنوعة طالبًا إليهم، بعدما حّدثهم عن تفاصيل مشروعه المتعلق بأسس ذلك المعهد، أن يضعوا الست والعشرين مادة التي تنظم نشاطات تلك المؤسسة التي أراد منها أن تكون إدارة خاصة تهتم بكل ما يتعلق بتاريخ مصر وجغرافيتها وشعبها ومواردها ومياهها وكل الباقي...
كان الأربعة الأساسيون الذين جمعهم بونابرت في تلك الجلسة، لوي كوستاز وديجينيت وجوفروا سانت – هيلير، وكافاريللي (الذي سيركز عليه يوسف شاهين في فيلمه «وداعًا بونابرت»)، والجنرال أندريوّسي ممثًلا الجانب العسكري من المشروع، وكانت النتيجة التي توصلوا إليها تتلخص في الصياغة التالية: سُتنشأ في مصر مؤسسة للعلوم والفنون، يكون مركزها القاهرة، وأهدافها الرئيسة: 1 (التقدم ونشر الأنوار – أي فكر الأنوار – في مصر، 2( دراسة، والبحث في، الأوضاع الطبيعية والصناعية والتاريخية في مصر، 3 (إعطاء آراء المعهد حول مختلف المسائل التي ستستشيره الحكومة فيها». وفي سبيل تسهيل عمل المعهد وتركيز اهتمام أعضائه، تم تقسيم العاملين فيه بصفة مسستشار الى أربعة أقسام: قسم الرياضيات (وهو قسم من الغريب أن بونابرت قد اختار أن يكون واحدًا من أعضائه، الى جانب
عدد كبير من المهندسين والخبراء...)، قسم الفيزياء، الذي ضم علماء في شؤون المناجم نشاطاته، وضم خبراء في الشؤون المالية والإدارية، وأخيرًا قسم الأدب والفنون، الذي ضم خبراء في هذين المجالين، لكن أيضًا بعض الأسماء التي ستطالعنا لاحقًا من خلال نشاطات السان سيمونيين في مصر، وعدد من المستشرقين والرسامين، علمًا أنه ستكون لأعضاء هذه اللجنة باع أساسية في تعميم كتاب «وصف مصر» وإنجازه. كما أن عددًا من الرسامين الذينُضّموا الى هذه اللجنة سيوقعون بعض تلك اللوحات الاستشراقية الشهيرة التي ستعرف لاحقًا بتعبيرها عن حملة بونابرت. ومنهم الرسام ريغو الذيُضّم الى اللجنة بعد حين، حتى من دون أن يكون قد انتخب عضوًا فيها.
ومنذ البداية، قرر الجنرال بونابرت الذي اعتبر نفسه عضوًا في اللجنة، أن يكون مركز المعهد في قصر حسن الكاشف، على أن تعقد جلسات اللجان، في صالون الحريم بالقصر اعتبارًا من يوم 23 من الشهر نفسه. وهنا لا بد من ملاحظة أنه حتى وإن كان العمل، في تأسيس «المعهد» جماعيًا، فإن العلماء والفنانين انصرفوا من فورهم الى القيام بمجموعة من النشاطات التي سرعان ما ارتبطت بأشخاصهم واختصاصاتهم كأفراد. وقد يكون مفيدًا
هنا أن ننقل بعض عناوين تلك الأشغال وأسماء القائمين بها، على سبيل المثل: فالعالم مونج، مثًلا، راح يشتغل على الظاهرة البصرية المعروفة باسم «سراب»، كما اشتغل على تركيب نموذج من الحجارة التي بني بها القصر القاهري الذي يجتمعون فيه، واشتغل
برتوليه على «دراسة تكوين حامض الأمونياك»، كما اشتغل آندريوسي على «صناعة الجفصين والبارود محليًا»ن فيما دبج سانت – هيلير «ملاحظات مهمة حول جناح النعامة وكيفية عمله». أما سولكوفسكي، فإنه وّصف الطريق بين القاهرة والصالحية، وطلب أن ُينقل إليه تمثال نصفي للآلهة إيزيس، ولوحان من الحجارة عليهما كتابات هيروغليقية، في محاولة أولى منه لدراسة النصوص الفرعونية وفك شفراتها. واشتغل ديجينيت، على أمراض العين المنتشرة في مصر، كما على ملوحة التربة، في وقت فّضل فيه نوّري أن يدرس مقاييس عمود بومبيوس، الذي رسمه زميله لوبير، وانصرف كوستاس الى دراسة التنويعات التي تحصل على لون مياه البحر، ومن ناحيته انصرف دولوميو، بكلّيته لدراسة موقع الاسكندرية الأصلية، لكن عبر تطبيقات جيولوجية على الجغرافية القديمة.
طبعًا لم تكن هذه سوى عينات من تلك الأشغال الكثيرة التي جرى الاهتمام بها ضمن إطار أعمال اللجان في «معهد مصر». ومع هذا، يبقى الأهم في ذلك كله، تلك المشاريع العديدة والمتنوعة والجريئة التي اشتغل عليها عدد كبير من العلماء والمّساحين ورسامي الخرائط والجغرافيين، والمتعلقة بشق قناة تصل البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، أي المشروع الذي سيشتغل عليه لاحقًا العلماء الاشتراكيون السان سيمونيون، كما أشرنا، والذين سيكون معهم المصري محمد مظهر، ليأتي في النهاية فردينان دي لسبس، ويحقق المشروع بعدما يكون كثر قد نسوا أنه ولد أوًلا في إطار حملة بونابرت، ولكن ربما
ايضًا هنا، في استلهام من مشروع استعماري قديم كان قد صاغه الفيلسوف الألماني
ليبنتس قبل ذلك بعقود! لكن هذه حكاية أخرى
نقلاً عن صحيفة الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة