كذلك هي الحال في اليمن تخفي الحرب ما وراءها. نيران ملتهبة في الأجواء ودمار في الأرض لا يتوقف
كذلك هي الحال في اليمن تخفي الحرب ما وراءها. نيران ملتهبة في الأجواء ودمار في الأرض لا يتوقف، حرب ساخنة طاحنة ودامية، لكن وراء النيران صدام في الظلام، يفصح بأكثر مما يكتم. وربما أن هذا الصدام يفتح ممراً لاجتياز نقطة النار. يعرف العالم أطراف الحرب المعلنة وإن كان القليلون يدركون خفاياها. وفي الصورة أن القتال دائر بين قوات الحكومة بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي مسنوداً بالتحالف العربي وبين جماعة الحوثي والرئيس السابق علي عبد الله صالح مدعومين بجهد من إيران، وأن هناك قتالاً آخر بين هادي والمتعاونين معه وبين تنظيمي القاعدة و«داعش» مع شبهات كثيرة لمن يحركهما من الداخل ومن الخارج.
هذه الحرب المكشوفة لا تخفى على الكثيرين وإن كانت التباسات لازمتها وجعلت بعضهم يتساءل عن دواعي تبديل قوى سياسية لمواقفها منتقلة من النقيض إلى ضده. وقد لاحظت أن التساؤل ملح من النخب السياسية والفكرية في بلدان عربية عدة، حيث وضعت رهانها على أنظمة لم تكن معها في حالة وئام.
أغلب هؤلاء الحائرين أو الغاضبين ينقصهم الاطلاع الكافي على تعقيدات الواقع اليمني، وربما أخذوا من الأشياء ظواهرها وصدقوا أن الحوثيين عازمون على اقتحام طروادة بدك الأسوار أو فوق الحصان الخشبي وأن إفناء «إسرائيل» أمر محتم إن فازوا وسادوا في اليمن رغم أن أحداً بعد ذلك لا يتمنى اكتمال المشروع الحوثي واصلاً إلى الموت لأمريكا.
أقول إن هذه الحرب المكشوفة ليست خافية على أكثر الناس. إنما المستتر وراء ها حرب صامتة بين علي عبد الله صالح والجماعة الحوثية. ومعروفة الحروب الضاجة بينهما منذ 2004 حتى 2010 لكن حلفهما الجديد أوحى بسلام طويل، ليس دائماً بالقطع. لكن حقائق الأشياء أخذت تكشف عن أن حبل الود قصير بأكثر مما تخيل المراقبون. وقد بلغت الخلافات حداً لم تراع معه المظاهر.
من هذا أن فريقاً من وفد الانقلابيين إلى مفاوضات الكويت المراوح في مسقط، بعد إغلاق مطار صنعاء، ذهب إلى حيدر العبادي في بغداد دون أن يصطحب نصفه الآخر الموالي للرئيس السابق.
من هذا أيضاً أنهم لم يتفقوا على أداء مشترك لصلاة العيد. قاطع صالح ورجاله الصلاة كلية متذرعين بسوء الأحوال الأمنية. وفيما يشي عن خلاف داخل المعسكر الحوثي فإنهم توزعوا بين جامعين، وظهر أن عبد الملك الحوثي يسوق رأسين في تبعيته، محمد علي الحوثي رئيس اللجنة الثورية، وصالح الصماد رئيس المجلس السياسي.
ومنه، ثالثاً، وعلى هذا الترتيب، أن اللجنة الثورية العليا لم تحل نفسها واكتفى رئيسها بتسليم علم الدولة لرئيس المجلس المعين بالشراكة. لكن الأمر تجاوز المظاهر إلى الممارسة فقد رفضت اللجان الثورية المهيمنة على الوزارات والمصالح الحكومية أن ترخي قبضتها لتعطي المجلس الجديد سلطة على مرافق الدولة.
إن الوفد الناقص إلى العراق والصلاة المجزأة في العيد تشير إلى أن الدفء الطالع من مراسم إعلان المجلس السياسي يغطي الصقيع القاتل على جسر العلاقة بين الحليفين. والشائع أن الحوثيين استولوا على جيش علي عبد الله صالح، بالتحديد الحرس الجمهوري، وليست الدلالة أنه اضطر ذات مرة إلى التوسط بقيادي في حزبه قريب من رئيس الأركان المعين منهم لاستخلاص رواتب ومخصصات الألوية المكلفة بحراسته.
دلالته فقط أنهم يقبضون على وزارة المالية والبنك المركزي، لكن لا مجال للشك أنهم أجروا تعيينات في مفاصل القوى العسكرية المنسلخة لتعزيز نفوذهم على حساب الرئيس السابق. وفي المقابل فإن صالح ليس غافلاً عما يفعلون، ولديه من الدهاء والمكر ما يحافظ على مكانه في الحلبة السياسية، فوق أنه صاحب مهارة فائقة وخبرة في اقتحام حصون الآخرين والتسلل إلى معسكراتهم.
ولئن كان الحوثيون أخذوا بعض مواقعه بالقوة والجهر فإنه سيغزو جبهتهم بالمكر والحيلة. وبعض الظن أن لديه نصيباً من حقهم في المجلس السياسي (الرئاسي)، وبسببه لم تسلم اللجنة الثورية كل صلاحياتها للمجلس الجديد. فبحسب ما أعلم أن أوراق اللعبة السياسية تتزايد بما يعزز قدرته على إدارة الصراع وبما يجعل الحوثيين ورقة في يده للمساومة، ويستدل عليه من إشارات كثيرة، وفيها أن يوجه رسائل للمملكة العربية السعودية عارضاً حواراً مباشراً معها، والمعنى أنه يعرض علاقة تشكل استمراراً لود قديم وتزيل القلق من مخالب إيرانيه تحاول التمدد في جنوب الجزيرة باليمن كما استقرت في شمالها بسوريا. والسعودية ليست مطمئنة، فلديها أن الرجل يمارس واحدة من مناوراته المعروفة، وأنه قد أقام علاقة مباشرة مع إيران لا تمر عبر الحوثيين. وقد تسربت تفاصيل اتصالاته بهم خصوصاً اللقاءات التي أجراها نجله مع مسؤولين إيرانيين في روما في 2014. لكن الرجل يبعث رسائل ويبدي نوايا في مضمونها أنه مستعد لصد الحوثيين ومنع الخطر الإيراني.
ولا بأس أن يكون صادقاً أو مراوغاً كعادته، فالواجب ألا تهمل رسائله. وما الذي يضير أن تنقل المعارك من حرب تنهك الشعب إلى قتال بين مشعليها؟ وما الذي يمنع من تحفيز الصدام في الظلام كي تنطفئ النيران تحت الأضواء وفي مدى الآفاق؟
نقلاً عن صحيفة الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة