مرضى الشلل الدماغي في غزة.. أحياء خارج الحياة
مدير مركز سجى للرعاية في غزة أعفى نفسه من جميع الوظائف والمراتب، وقرر أن يتفرغ لرعاية الأطفال والشباب والنساء المصابات بالمرض
يعيشون حياتهم بلا أحلام أو آمال يكافحون الشلل والحصار في آن واحد.. إنهم أهالي غزة المصابون بمرض الشلل الدماغي، الذين فقدوا القدرة على خدمة أنفسهم ولو بشربة ماء.
"يارا" لم تكمل عامها السادس، تتمدد على حافة سريرٍ في مركز سجى للرعاية الخاصة، وقد تدلى رأسها نحو الأرض على بعد شبرين، وكل ما تجيده إرسال ابتساماتها البريئة لكل من يقترب منها، تركتها والدتها بعد انفصالها عن أسرتها، وبعد سجن والدها لأسباب متعلقة بالذمم المالية وتعسره اضطرت جدتها لإرسالها إلى مركز الرعاية، لما تحتاجه من مصاريف ورعاية خاصة، فما كان لأي جهة أن تجمع لها حياتها سوى "الأسرة البديلة".
تعيش "يارا" يومها بعيدة عن أهلها المعوزين، في أحضان متخصصين تربويين، ومتطوعات قادتهم الإنسانية لفعل الخير، وهي لا تبكي من وجعٍ، ولا تشتكي من ألم، رغم عيشها فيهما، ولكن الفقد الذي سبب لها كل ما هي فيه، يحوم من حولها، ولا تعرف له معنى، فهي لا تذهب إلى المدرسة كباقي الأطفال، ولا تمشي مثلهم، ولكنها تفتح ذراعيها لكل من يحتضنها، وتقبل خد كل من يحملها، تعيش هنا وستبقى، ولكن لبقائها تكاليف تطارد الساهرين على رعايتها بظل أوضاع مأزومة، تزيد ولا تنقص.
تقول جميلة عيلوة، 65 سنة، التي أسست جمعية مبرة فلسطين للرعاية، ومديرة البرامج في مركز سجى لـ"العين الإخبارية": "كان السبب الرئيسي لإنشاء مركز الرعاية وجود أطفال مرضى بالشلل الدماغي، وغياب المعيل لهم، سواء الأم أو الأب أو كلاهما في بعض الحالات، لأسباب اجتماعية، أو غالباً مالية قاسية، وأحياناً وجود أكثر من شخص معاق في الأسرة الواحدة، فنتحمل معهم المسؤولية بأخذ طفل أو اثنين، ورعايتهم في المركز، ضمن برنامجي إنقاذ الحياة، والحفاظ على الحياة، مع تنمية القدرات".
وتضيف "بعض الحالات تستجيب للعلاج والتدريبات وتصبح قادرة على المشي والنطق، وهنا ندمجها في برامج التربية والتعليم، وقد أسسنا مدرسة خاصة لهؤلاء الأطفال، وأحضرنا إليها أصحاب الإعاقة من خارج المركز لتفعيل برنامج دمج مرضى الشلل الدماغي في المجتمع، ونسعى من خلال برامجنا إلى حماية هؤلاء الأطفال والشباب والنساء، والمركز يضم 50 مصابا بالمرض، ويقيمون بشكل دائم في المركز ويقدم لهم العلاج والخدمات والرعاية المطلوبة، وفق الاستطاعة المتوفرة، على الرغم من أن الجهات الرسمية لا تقدم أي دعم أو مساعدة لهم".
وتتابع جميلة "نعتمد على التبرعات الفردية، وكفالة الأيتام، ورجال الأعمال في القطاع الخاص، وللأسف الظروف الحالية في قطاع غزة غير مشجعة لتوسيع مساحات الرعاية، رغم وجود عشرات الطلبات والحالات التي تنتظر خدماتنا، ولكننا نتقبل الحالات الأشد خطورة، والتي تقطعت بأسرها سبل الرعاية، والمركز يعتبر أسرة بديلة للمرضى ويسهر على راحتهم ويعد لهم برامج تأهيل حسب كل حالة، وتطوير وتنمية بعض الحالات لتكون منتجة بشكل ما، فبعض المرضى انخرطوا مهنياً ببعض الأعمال البسيطة كالتطريز والزخرفة والزراعة".
"نهى" فتاة بلغت 30 سنة من عمرها، قدمت أسرتها من العراق إلى قطاع غزة بعد وفاة والدها، وبمرض والدتها المسنة أغلقت أبواب رعايتها الأسرية بشكل كلي، فما كان إلا لمركز سجى أن يحتضنها، وهي من المقيمات الدائمات منذ سنة ونصف في مركز الرعاية، لا يزورها سوى والدتها الطاعنة في السن، والتي أرهقتها متاعب الحياة، ولا تحمل لها مع زيارتها سوى دموع عينيها، وحضناً يزودها بالحبّ، ويعينها على تحمل مرضها المستدام.
لا تتحرك "نهى" إلا حملاً بالأيادي، دون أن يتعب الذين يخدمونها لأن إنسانيتهم علمتهم أن الحياة بكل معاناتها عبور طال مساره أم قصر، فهي لا تضحك، ولا تنطق، ولا تسمع، فكل فيها معطل إلا ما يبقيها على قيد الحياة.
بسام البطة "50 سنة"، مدير مركز سجى للرعاية خريج دراسات عليا في القانون وإعلامي، شاء القدر أن تصاب ابنته بالشلل الدماغي، ولكن الموت لم يمهلها ليقدم لها الرعاية، أعفى نفسه من جميع الوظائف والمراتب، وقرر أن يتفرغ لرعاية الأطفال والشباب والنساء المصابات بالمرض.
يقول بسام لـ"العين الإخبارية": "بدأت فكرة مركز الرعاية بعد وفاة ابنتي سجى التي أصيبت بالشلل الدماغي لسوء التشخيص والعلاج الذي أدى إلى وفاتها، وبموتها الذي أثر عليّ قمت باستئجار شقة صغيرة لاستضافة حالتين أو 3 فقط، ولم أقدر يومها أن في قطاع غزة حالات كثيرة، الأمر الذي ألزمني إنسانياً أن أوسع الخدمة فعرضت على السيدة جميلة عليوة دمج جمعية مبرة بالمركز والتعاون لتقديم الخدمة، وهذا ساعدنا على استضافة عدد 50 حالة تعاني من المرض وتقيم بشكل دائم".
ويضيف "لدينا في قوائم الانتظار ما لا يقل عن 70 حالة وبدراستها تبين أنها تحتاج إلى رعاية، ولكن إمكانيات المركز للأسف لا تسمح، وهناك بعض الحالات وصلت المركز بطرق تدلل على سوء أوضاع الناس، فأب يترك طفلته على باب المركز ويقول لنا إنه لا يستطيع أن يقدم لها اللقمة ولا حبة الدواء، والبعض اضطروا إلى هجران مرضاهم والتبليغ عنهم، فنجد أنفسنا ملزمين بإحضارهم، فالحصار والفقر والأزمات لم تعف هذه الحالات من قسوتها".
ويتابع بسام "نعاني كل شهر من تأمين احتياجات المرضى سواء المقيمين منهم أو الذين يتحصلون على الخدمات والرعاية ويغادرون في نهاية اليوم للمبيت في منازلهم، فنضغط على رجال الأعمال، والشخصيات التي نتوخى الخير فيها، وكل التبرعات قائمة على كفالة الأيتام، والتبرعات الشخصية، ولا يوجد جهة رسمية أو شبه رسمية مساهمة في تقديم الخدمات للمرضى، إلا أننا نواصل رسالتنا، ولدينا طموح أن نوسع مساحة الخدمة لتشمل أكبر عدد ممكن من هذه الحالات، والتي بعضها تم تأهيلها فعلاً وأصبحت منتجة وتتقاضى راتبا رمزيا".
سلمى، 36 سنة، كانت السبب في إنشاء جمعية مبرة فلسطين للرعاية، كان عمرها يومئذ 10 سنوات، أصيبت بالشلل الدماغي الكلي، الأمر الذي دفع جميلة عليوة لرعايتها بعد وفاة أمها، وهجران والدها، ومنذ 26 سنة وسلمى تخضع لرعاية المركز بعد أن نجت من عملية قصف جوي لهدف مجاور للجمعية قتل فيه اثنان من المعاقين، وأصيبت سلمى بجروح متوسطة، وتعيش اليوم على ذات السرير، وتتلقى أيامها بابتسامة قد تشفع لمن يسهر على راحتها، ولا تجدها قادرة على فعل أكثر من رسم الابتسامة.
aXA6IDE4LjIxNy4yMDguMjIwIA==
جزيرة ام اند امز