خاطبت ميركِل مُنتدى دافوس مُدركة أنها رُبما تكون المرة الأخيرة لها وذلك مع اقتراب تاريخ اعتزالها العمل السياسي الذي أعلنته في 2019
رُبما يكون الخطاب الذي ألقته المُستشارة الألمانية أنجيلا ميركِل أمام مُنتدى دافوس الاقتصادي من أهم الكلمات التي استمع إليها المُشاركون في المؤتمر والعالم كُله، إن لم تكُن أهمها على الإطلاق.
فلم تنشغل هذه السياسية المُخضرمة بعرض الإنجازات التي حققتها في فترة حُكمها والتباهي بها كما فعل الرئيس ترامب مثلا، بل تحدثت بمنطق "رجُل الدولة" الذي يمتلكُ رؤية ثاقبة لمشاكل العالم ومُستقبله. ولم تتحدث كألمانية بقدر ما تحدثت بصوت أوروبا.
وفي شجاعة، أقرت ميركِل بأن ما تُقدمه أوروبا لا يهدفُ فقط إلى مُساعدة أفريقيا وإنما أيضا إلى مُساعدتنا، لأنه يُقلل مِن ضغوط التدفُق البشري والهجرة غير الشرعية
كان خطابها في دافوس هو الخطاب الثاني عشر الذي تُلقيه في هذا المنتدى، وهي على وشك أن تُنهي حياة سياسية حافلة استمرت لعدة عقود كانت فيها عُضوة في البرلمان، ورئيسة لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، ووزيرة للشباب والمرأة ثُم للبيئة في عهد المُستشار هيلموت كول، ثُم مُستشارة للدولة في عام 2005 وهو أعلى منصب تنفيذي في ألمانيا، وهو ما يُماثل منصب رئيس الجمهورية في الدول الرئاسية ورئيس الوزراء في الدول البرلمانية.
خاطبت ميركِل مُنتدى دافوس مُدركة أنها رُبما تكون المرة الأخيرة لها، وذلك مع اقتراب تاريخ اعتزالها العمل السياسي الذي أعلنته في قرار لها عام 2019، ولعلها أرادت أن يكون هذا الخطاب خُلاصة خبرتها في السياسة العالمية ورؤيتها للمنهج الصحيح في التعامُل مع المشاكل والأزمات العالمية الراهنة.
انطلقت ميركل في رؤيتها للأزمات العالمية من ثلاث أفكار رئيسية؛ الأولى أن المشكلة الأساسية تكمُن في أن الدول لا يخاطب بعضها بعضا، وأن الحال الآن أسوأ مما كانت عليه في فترة الحرب الباردة، مُشيرة إلى أنه من الخطر البالغ أن يقتصر التواصل وتبادل الرأي بين المُتفقين وبعضهم، فالأهم أن يتواصلَ المُختلفون وأن يتعرف بعضهم على وجهات نظر بعض، وتحديد الأُسس التي تكمُن وراء هذه الاختلافات.
وقالت إنها تعرفُ رؤساء دول لا يتحدث بعضهم إلى بعض، وإنه رغم العولمة المُتزايدة فإن هناك اتجاهات قوية في كثير من الدول للانكفاء على الداخل. وحذرت من أن عدم التواصُل هذا يُمكن أن يؤدي إلى كارثة بسبب ازدياد حالة عدم اليقين، وأن الحوار بين الفُرقاء هو الطريق الوحيد لبناء "الثقة" والتعرُف على العناصر المُشتركة أو المُتشابهة وإقامة الجسور بين المُختلفين.
والحل في نظرها يتمثلُ في مزيدٍ من العمل الدبلوماسي والاتصال السياسي. ويتمثلُ أيضا في التركيز على المفاوضات الجماعية والوصول إلى تراضٍ أو توافق بين الدول بشأن القضايا محل النزاع "وأننا كأوروبيين نُدافع عن الدبلوماسية الجماعية".
والأرجح، أن السيدة ميركِل كانت تنتقد بشكل غير مُباشر سياسات "الانفراد" التي اتسمت بها الدبلوماسية الأمريكية في عهد الرئيس ترامب والتي أدت إلى أزمات مُتلاحقة مع الخصوم والحُلفاء على حد سواء والتي تضررت مِنها ميركِل شخصيا عندما تردد ترامب في مد يده لمُصافحتها، فسألته علنا عما إذا كان يرفض مُصافحتها وعندئذٍ مد الرجُل يده لمصافحتها.
والثانية أن العالم يمر بمرحلة تحول فِكري وقيمي بالغة العُمق ومُتعددة الجوانب، فتقول ميركِل إن علينا التخلي عن طُرق التفكير والأساليب التي نشأنا عليها وتعودناها في ظِل المُجتمع الصناعي وضرورة تبني طُرق وأساليب أخرى تتناسب مع التقدم التقني والتكنولوجي في العالم.
وأن هذا التحول القيمي الرقمي ليس أمرا سهلا ولم تحققه كُل الدول في وقت مُتقارب، وأن على القادة أن تكون لديهم تصورات وإجابات عن الأسئلة التي يطرحها الناس. فهُم يتساءلون: "ما مُستقبل التنوع الحيوي؟ وما آثار التغيرات المُناخية على الحياة في المُستقبل"، وغير ذلك.
وعند الإجابة عن هذه الأسئلة، أكدت ميركِل ضرورة العودة إلى الشباب والنظر إليهم مصدرا للتجديد والإبداع في المُجتمع، وأن تُتاح لهم الفُرصة كاملة للمشاركة في بناء المُجتمعات وتطوير أنماط الحياة التي سوف يعيشونها.
أما الفكرة الثالثة فهي التغيُرات المناخية التي أكدت ميركِل أنها تُمثل تحديا كبيرا لكُل دول العالم، وأن على الدول الصناعية المُتقدمة التزاما أخلاقيا بالعمل على مواجهة تأثيراتها الضارة وأقرت بشجاعة نادرة مسؤولية بلادها (ألمانيا) باعتبارها واحدة من أكبر مُصنعي السيارات في العالم، وأنها تتعهد بالعمل الدؤوب لوقف إنتاج السيارات المُلوثة للبيئة، وأنه سوف يتم إنهاء استخدام الفحم في المصانع الألمانية مع حلول عام 2038، وبالتوسع في إنتاج الطاقة النظيفة الصديقة للبيئة بحيثُ تصلُ نسبة إنتاج الطاقة من مصادر مُتجددة في ألمانيا إلى 65%، وذلك بحلول عام 2030. وعلقت على هذا التعهد الأخير بأنه في بلد يندر فيها ظهور الشمس وتقل فيها الرياح، فإن تنفيذه ليس بالأمر السهل.
كما دعت الدول الصناعية المتقدمة إلى دعم التنمية المُستدامة في الدول النامية. وأشارت ميركِل إلى أن هُناك فريقا لا يؤمن بموضوع التغيرات المناخية، ويراها ضربا من إهدار الموارد، وعندما تعوزه الحقائق لإثبات وجهة نظره فإنه يلجأ لإثارة المشاعر والعواطف وهو نهج خاطئ.
وتوقفت ميركِل أمام الأزمة الليبية ورُبما كان ذلك بسبب استضافة ألمانيا مؤتمر برلين الذي عُقد في يناير/كانون الثاني 2020 الذي شاهد مشاركة سياسية رفيعة على مستوى رؤساء الدول والوزارات، وخرج بتوصيات أكدت حظر تصدير السلاح إلى الأطراف المتصارعة وضرورة البدء في عملية سياسية للوصول إلى حل سلمي.
وأشارت ميركِل إلى ضرورة العجلة في التعامل مع الصراع في ليبيا وأن استمراره يُمكن أن يؤدي إلى نتائج إنسانية كارثية تُماثل ما حدث في سوريا، وهو اقتلاع ملايين البشر من مساكنهم ومُدنهم وتحولهم إلى لاجئين في بلاد أجنبية.
وفي لحظة نادرة من الصدق مع الذات، قالت هذه السيدة المُحترمة إن الخطأ الذي وقعت فيه ألمانيا في عام 2015 لم يكُن قبولها أعدادا كبيرة من اللاجئين السوريين، ولكنه عدم استعداد المؤسسات والهيئات الألمانية المُسبق للتعامل مع هذا الحدث المفاجئ. وأكدت ميركِل أنه لا ينبغي السماح لأن يتكرر في ليبيا ما حدث في سوريا.
وحذرت من ممارسات الحروب بالوكالة وأن الحل هو مُساعدة الأطراف المُتصارعة في الجلوس إلى مائدة المفاوضات والوصول إلى حلٍ سياسي وسلمي.
وخصصت ميركِل جُزءا من خطابها للحديث عن مشاكل القارة الأفريقية وضرورة العمل مع الأفارقة لحلها.
وحرصت على تأكيد منهج أن علينا العمل "مع أفريقيا" وليس "من أجل أفريقيا". فالتعبير الأول يُشير إلى معنى المُشاركة، وأن الأفارقة لهُم دور قوي في تحديد البدائل واختيار السياسات.
وقالت ميركِل إن علينا أن نُنصت لهُم ونستمع إليهم، أما التعبير الآخر وهو العمل من أجل أفريقيا، فإنه يتضمن معنى "الوصاية" و"الأبوية".
وفي شجاعة، أقرت ميركِل أن ما تُقدمه أوروبا لا يهدفُ فقط إلى مُساعدة أفريقيا وإنما أيضا إلى مُساعدتنا لأنه يُقلل مِن ضغوط التدفُق البشري والهجرة غير الشرعية. وتعهدت بأن تقوم ألمانيا في فترة رئاستها المقبلة للاتحاد الأوروبي بالدعوة لقمة أوروبية - أفريقية لبحث قضايا التعاون المُشترك بين الطرفين.
يتميز الخطاب السياسي لميركِل بالوضوح وعدم اللجوء إلى العبارات المُرسلة، فهي إلى جانب كونها سياسية فهي باحثة حصلت على درجة الدكتوراه في مجال الكيمياء الفيزيائية.
ثُم إنها أدركت أن الزمان قد تغير وأن ألمانيا تحتاج إلى قيادة جديدة فقررت اعتزال الحياة السياسية وبغيابها يغيب آخر رمز من رموز جيل عظيم من الزعامات الأوروبية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة