لا تمانع الولايات المتحدة والأوربيون إبرام مثل هذا الاتفاق، شرط ألا تكون إيران طرفاً فيه
كثير من السوريين كانوا يظنون أن أولئك المسلحين الذين ذهبوا إلى ليبيا من الشمال السوري، هم ثوار معارضون لسلطة بشار الأسد. كانوا يتعاطفون معهم ويؤيدونهم في المال والإعلام والدعاء. ولكن اتضح أن كل ذلك لا يكفي ولا يعادل الحصول على الجنسية التركية أو صرف الرواتب بالدولار. أولوية هؤلاء المرتزقة لم تكن يوماً نصرة الشعب السوري ضد طاغية دمشق، وإنما نصرة السلطان الذي يحلم بإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية في المنطقة العربية.
لا تمانع الولايات المتحدة والأوربيون إبرام مثل هذا الاتفاق، شرط ألا تكون إيران طرفاً فيه، وشرط أن يوقف الحرب شمال البلاد، قبل أن يضطر الرئيس دونالد ترامب إلى تفعيل حقيقي وليس ورقيا، لعقوبات قيصر على الحكومات السورية والروسية والإيرانية وغيرها
ترحيل المرتزقة السوريين إلى ليبيا للقتال إلى جانب حكومة الوفاق، بدا خياراً ملائماً لرجب طيب أردوغان على مستويات عدة. كما يقال في المثل الشعبي يضرب حجراً ليصيب به ثلاثة عصافير دفعة واحدة؛ العصفور الأول هو التمهيد للمصالحة مع النظام السوري تلبية لرغبة الحليف الروسي، والثاني هو الدفاع عن مملكة الإخوان المسلمين في العاصمة الليبية طرابلس. أما الثالث فهو البدء بمشروع التمدد العثماني في شمال القارة السمراء عبر البوابة الليبية.
الروس ومن خلفهم حكومة الأسد يطالبون أردوغان بفصل المعارضة عن الإرهابيين في محافظة إدلب منذ سنوات. ظل حائراً بهم، إلى أن قرر الإبحار عبر مياه المتوسط للقتال إلى جانب حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج. الآلاف الذين أرسلهم الرئيس التركي ينتمون إلى عدة فصائل مسلحة. ليست جميعها مصنفة إرهابية على قوائم الروس، ومنها من هو ممثل في مفاوضات أستانا. لذلك لا بد من السؤال حول نوايا أردوغان الحقيقية تجاه المعارضة السورية.
ليس كل سوري ذهب إلى ليبيا هو بالضرورة متطرف بالمعنى الديني. وإنما هو إرهابي بتعريف القتل لغرض الارتزاق. السؤال هنا: لماذا يرسل أردوغان المسلحين السوريين، الإرهابيين وغير الإرهابيين، إلى ليبيا، إلا إذا كان يريد التخلي عن المعارضة السورية؟ فانسحاب آلاف المقاتلين من جبهات القتال في إدلب يقود ببساطة إلى زيادة فرص القوات الحكومية في حسم معارك المدينة وريفها، خصوصا أن عدداً كبيراً من فصائل المعارضة قد ترك إدلب، وبات يقاتل اليوم إلى جانب الجيش التركي في مناطق عملية "نبع السلام" شرق نهر الفرات.
يسهل القول إن السلطان قد تخلى عن الثورة والثوار السوريين، والهدف هو أكبر بكثير من تنفيذ التزامات خفض التصعيد في إدلب وريفها، بفصل الإرهابيين عن غير الإرهابيين من الفصائل المسلحة. الهدف يكمن وفقا لكثير من المؤشرات، في التمهيد لمصالحة رسمية مع نظام بشار الأسد يريدها أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، بالقدر ذاته من الأهمية والسرعة. كما أن الطرفين الإقليمي والدولي يشجعان على إبرام مثل هذه المصالحة لأسباب عديدة.
اللقاء الذي جرى في موسكو مؤخراً، وجمع رئيس مكتب الأمن الوطني السوري علي مملوك مع رئيس جهاز المخابرات التركي حقان فيدان، كان تمهيدا للمصالحة المحتملة، وهو يسعى مبدئياً إلى وضع إطار عام لاتفاقية أمنية بديلة لاتفاقية أضنة المبرمة عام 1998. الاتفاقية الجديدة ستكون بشروط تركية أكثر منها سورية، وعلى حساب سكان مناطق الشمال؛ عرباً وكرداً، ليس فقط شرق نهر الفرات وإنما غربه أيضا. لكن لا بد من الإشارة إلى أن هذه الاتفاقية بمفردها، إن أنجزت طبعاً، لا تكفي لمصافحة الأسد وأردوغان كما تحلم موسكو.
الوضع الميداني في إدلب حاليا، يواكب الحوار السوري - التركي الذي يدور برعاية روسية، والوصول إلى تفاهم يشمل كامل الشريط الحدودي بين البلدين هو غاية أبلغها بوتين للأسد عندما حط في دمشق، وهو في طريقه إلى أنقرة لعقد قمته الأخيرة مع رجب طيب أردوغان.
لا تمانع الولايات المتحدة والأوروبيون إبرام مثل هذا الاتفاق، شرط ألا تكون إيران طرفاً فيه، وشرط أن يوقف الحرب شمال البلاد، قبل أن يضطر الرئيس دونالد ترامب إلى تفعيل حقيقي وليس ورقيا، لعقوبات قيصر على الحكومات السورية والروسية والإيرانية وغيرها.
ثمة حاجة لدى الدول المعنية بالأزمة السورية إلى إبرام مصالحة تركية - سورية. لكل أسبابه طبعاً، ولكن مصالح هذه الدول التقت عند هذه المصالحة وفي هذا الوقت. ترحيل المرتزقة السوريين للقتال في ليبيا يخدم هذه الغاية بالضرورة. وكلما ازدادت نقاط الاتفاق بين أردوغان وبوتين في ليبيا وغيرها من الأزمات حول الكوكب، زادت احتمالات التوصل إلى التفاهم المنشود في سوريا. وإن تم هذا فإنه سيُعَدُّ من أبرز إنجازات تقييد الإيرانيين في المنطقة، على خلفية تفاهمات بين الروس والأمريكيين والإسرائيليين أبرمت في القدس منتصف 2019.
ظاهر المصالحة المحتملة بين دمشق وأنقرة يجعلها تبدو كأنها الانتصار الحاسم لحكومة الأسد على المعارضة، لكن ذلك لا يبدو منطقياً، فالمصالحة السورية - السورية التي تشكل الضمانة لأي استقرار في علاقات الدولة مستقبلاً مع الجوار والإقليم والعالم، يصعب أن تتم بوجود السلطة الحالية في دمشق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة