أردوغان يواجه رفضا عربيا وإقليميا ودوليا لمخططاته العدوانية حيث تحركت مصر ومعها الإمارات والسعودية بقوة لوقف هذا الجنون الأردوغاني
في منتصف الشهر الجاري، أعلن رجب طيب أردوغان أمام كتلة حزبه البرلمانية (حزب العدالة والتنمية الحاكم) أن بلاده بدأت بإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا، ثم أضاف في مقابلة مع قناة "سي إن إن ترك" أن بين القوات المرسلة إلى ليبيا كبار ضباط الجيش، لكن بعد خمسة أيام فقط، وهو في طريق عودته من مؤتمر برلين، كذب أردوغان نفسه، عندما نفى إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا، موضحا أنه تم إرسال مستشارين ومدربين عسكريين فقط، لدعم حكومة حليفه فايز السراج. كيف يمكن فهم هذا التناقض في كلام أردوغان؟
هل يعود ذلك إلى ممارسة الازدواجية وإرسال رسائل متناقضة؟ أم أن أردوغان يريد تأمين خط الرجعة عن قرار تدخله العسكري في ليبيا بعد أن وجد أن المعطيات ليست في صالحه وأن معركته أصبحت خاسرة؟ في الحقيقة، من يدقق في سلوك أردوغان وتصريحاته الأخيرة بشأن ليبيا، لا بد أن يجد تراجعا في حدة الحماس لديه لجهة الغزو العسكري لليبيا.
فبعد اتفاقه المشبوه مع السراج، صعد من تهديداته النارية، إذ دعا برلمان بلاده إلى اجتماع عاجل للمصادقة على الاتفاق، ومن ثم دفع البرلمان إلى التصويت على قرار التدخل العسكري وإرسال أسلحة وجيش، إلى درجة أن العالم استنفر على وقع هذا التصعيد، وثمة من ذهب إلى توقع حدوث حرب إقليمية ودولية بسبب سلوك أردوغان هذا. فما الذي جرى حتى غير أردوغان لهجته؟ في الواقع، الذي جرى أن أردوغان أحس بالخسارة، وتحديدا مع تقدم الجيش الوطني الليبي بزعامة اللواء خليفة حفتر، لا سيما بعد تحرير سرت من الجماعات المسلحة، وهو ما جعل من العاصمة طرابلس مطوقة، خصوصا أن معظم الجماعات المقاتلة في مصراته ليست على وفاق مع حكومة السراج.
حسابات أردوغان الخاطئة في ليبيا، قد تدفعه إلى تكرار تجاربه الفاشلة في أماكن أخرى، حيث بات يركز على الصومال في حجج مشابهة لحجج تدخله في ليبيا ومن قبل في سوريا
إلى جانب هذا التطور الميداني المهم، وجد أردوغان رفضا عربيا وإقليميا ودوليا لمخططاته العدوانية، فعربيا تحركت مصر، ومعها الإمارات والسعودية بقوة، لوقف هذا الجنون الأردوغاني، وإقليميا نظمت اليونان التي لها خلافات تاريخية مع تركيا، حملة دبلوماسية في كل الاتجاهات لتطويق التصعيد التركي، وبسبب ذلك وجدنا موقفا أوروبيا مدروسا في التعامل مع لغة الحرب التركية، وقد نجحت هذه الجهود مجتمعة في إرسال رسالة واضحة لأردوغان، مفادها: رفض الغزو التركي لليبيا تحت أي عنوان أو حجة، وأنه لا حل سياسيا في ليبيا دون تخلي أردوغان عن اتفاقه المشبوه مع السراج، هذه الرسالة التي خرجت من مؤتمر برلين بطريقة دبلوماسية، هي نفسها التي تكررت في اجتماع الجزائر لدول الجوار الليبي.
ورغم هذه الرسالة الواضحة، فإن أردوغان ما زال يعيش أوهامه، تارة بعقد صفقة مع نظيره الروسي بوتين، من خلال ربط ملف إدلب السورية بملف ليبيا، إذ إن إرسال آلاف المسلحين والمرتزقة من شمال سوريا إلى ليبيا على وقع ما يجري في إدلب، يوحي بصفقة جرت، وما يرجح وجود هذه الصفقة إدمان أردوغان على عقد الصفقات على أجساد السوريين ودمائهم، وتارة أخرى بمحاولة صنع تحالفات مع دول الجوار الليبي، وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى زيارته إلى الجزائر يوم الأحد، ومن قبل إلى تونس، واستقباله الغنوشي خلال الزيارة السرية للأخير إلى تركيا، وهي الزيارة التي أثارت كثيرا من الجدل والرفض في تونس بعد انكشاف أمرها.
في الواقع، أردوغان الذي لم يتعلم من درس فشله في سوريا، ومن قبل في مصر، وضع نفسه في امتحان صعب في ليبيا، فطموحاته الجامحة تضعه في مغامرات أكبر من إمكانات بلاده وقدراتها، ولا أقصد هنا الإمكانات العسكرية فقط، بل السياسية والثقافية والحضارية والإنسانية أيضا، وهي إمكانات لن تسعفه في إعادة بناء أمجاد امبراطورية أجداده البائدة كما يسعى.
الحديث التركي عن الحل السياسي في ليبيا مؤخرا، ليس من دون معنى، فأردوغان يريد من وراء ذلك، الحفاظ على بقاء العاصمة طرابلس تحت سيطرة الجماعات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق والمرتبطة به، بما يؤمن له ذلك الإبقاء على اتفاقه مع السراج، وهذا يعيدنا إلى جوهر الأزمة الليبية، إذ إن هذه الأزمة لا تعود في حقيقتها إلى الخلاف الناشب حاليا بين الجيش الوطني وحكومة الوفاق، وإنما إلى عام 2014، عندما رفضت الجماعات (الإسلامية) المتشددة، وتحديدا جماعات الإخوان المسلمين، نتائج العملية السياسية التي جرت في البلاد عقب عهد معمر القذافي، إذ إن هزيمة هذه القوى في انتخابات عام 2014، التي لم تحصل فيها سوى على 23 مقعدا من أصل 200 مقعد في البرلمان، دفعها إلى الانقلاب على العملية السياسية وإشهار العنف، وهو ما فتح البلاد أمام مخاطر جسيمة، وإشعال حرب المليشيات في طرابلس وتقاسم السيطرة عليها، على شكل إمارات على غرار داعش والنصرة.
وعليه، فإن الحل السياسي المنشود ينبغي أن يصب لصالح إقامة دولة وطنية لكل الليبيين وليس تكريس الواقع المليشياوي الذي يريده أردوغان والسراج ومن معهما من الجماعات المسلحة، إذ إن أردوغان في النهاية، يراهن على هذه الجماعات لتبرير تدخله وعدوانه في ليبيا. حسابات أردوغان الخاطئة في ليبيا، قد تدفعه إلى تكرار تجاربه الفاشلة في أماكن أخرى، حيث بات يركز على الصومال في حجج مشابهة لحجج تدخله في ليبيا ومن قبل في سوريا، والثابت أن أردوغان لن يتراجع عن هذا النهج، ما لم يتحول إحساسه بخسارة معركة ليبيا إلى واقع حقيقي، لأن هذه الخسارة يمكن أن تضع حدا لمغامراته وإدمانه على اللعب بدماء شعوب المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة