الولايات المتحدة تصنع الفوضى أولا، وتسعى من بعد ذلك إلى معالجتها.
تلك هي الحياة هناك. والأمثلة كثيرة. قد يكون غزو العراق أقربها إلى الأذهان، ولكن السعي لوضع سقف لسعر النفط والغاز الروسيين واحد من آخرها.
في العراق، انتهى الأمر بهزيمة منكرة لمشروع الديمقراطية القائم على أسس طائفية، وأخرى للهوية الوطنية، وثالثة لكيان الدولة نفسه. كما انتهى بانتصار ساحق للفساد، وآخر لمنظمات الإرهاب، وثالث لمليشيات الأحزاب المسلحة.
وآخر ما تستطيع الولايات المتحدة زعمه أنها حققت أي مكسب مما صنعت هناك. أنفقت نحو تريليوني دولار، ولم تسترد الشركات الأمريكية، التي حصدت عقودا -الكثير منها فاسد- إلا جزءا بسيطا من هذا المبلغ الخرافي.
أما القوات الأمريكية الغازية فقد دفعت خسائر بشرية تجاوزت خمسة آلاف قتيل ونحو 50 ألف جريح، حتى آثرت الهرب من العراق لتزيده فوضى، ما تزال بعض نيرانها تستعر حتى الآن في مواجهات لا يُعرف آخرها.
الآن جاء دور الفوضى، ليس في سوق الطاقة وحدها، وإنما في موازين الاستقرار الاقتصادي في العالم بأسره أيضا.
وضعُ سقفٍ لأسعار النفط والغاز الروسيين تبدو فكرة غير معقولة حتى من وجهة نظر المواجهة العسكرية مع روسيا، وفي السعي لإضعاف قدرتها على تمويل الحرب في أوكرانيا. وهي أيضا فكرة مجنونة بكل المعايير الأخرى.
لم يثبت وزراء مالية مجموعة الدول الصناعية السبع أنهم انفعاليون، وتأخذهم الحماسة المفرطة حتى لتعمى الأبصار، إلا عندما وضعوا السياسة فوق الاقتصاد، فقرروا السعي لوضع ذلك السقف. نسوا تاريخا طويلا من الجهد المضني من أجل وضع فاصل بين النفط كسلعة وبين السياسة.
الدول المنتجة للنفط، بقيادة السعودية، دافعت عن مبدأ الفصل بين النفط والسياسة، قائلة إن إخضاع هذه السلعة الحيوية للتقلبات والتناحرات السياسية سوف يؤدي إلى اضطرابات تهدد الاستقرار الاقتصادي العالمي، ويجعله عرضة للتقلبات.
ولأجل المفارقة العظيمة، فقد كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، أبرز المدافعين عن هذا المبدأ، وأكثر المستفيدين منه، على امتداد خمسة عقود متواصلة.
استقرار أسعار الطاقة، وبقاؤها في حدود "عوامل العرض والطلب"، أتاح لكل دول العالم الفرصة لكي تنمو اقتصاداتها بأفق واضح من القدرة على التنبؤ، وبمقدار أوضح من الثقة بديمومة العصب الرئيسي لتشغيل كل المحركات الاقتصادية.
روسيا لم تشرع، كما تقتضي الأمانة القول، في استخدام الغاز كسلاح سياسي، إلا بعدما أصبح الحديث عن مقاطعة النفط والغاز الروسيين هدفا مباشرا للعقوبات الاقتصادية ضد روسيا.
يمكن للمرء أن ينظر إلى الحرب في أوكرانيا من أي زاوية يشاء. ولكن روسيا لم تبدأ بنقض المبدأ. نقضته التهديدات. كما نقضته العقوبات التي تم فرضها على "السلعة" لأسباب سياسية وعسكرية. حتى بلغ الجنون حدًّا يُزمعُ وضعَ سقفٍ لسعر هذه السلعة يتناسب مع طموحات الإضرار بالاقتصاد الروسي.
والفكرة مجنونة من ناحية أنها تقلب معايير الاستقرار وتهدد عوامل السوق، وتعيد النظر في نتائج جهد لم يتوقف لنحو نصف قرن من أجل بقاء الطاقة خارج دوائر النزاعات السياسية. ولكنها أبعد من مجرد الجنون نفسه، عندما لا تأخذ بعين الاعتبار أن أسعار الطاقة هي تعاقدات يمكن أن تقول في ظاهرها شيئا لشركات الشحن، وتفعل آخر من ناحية التنفيذ النقدي لتلك التعاقدات. وهذه التعاقدات، بحد ذاتها، يمكن أن تكون أكثر تعقيدا من مجرد صفقة سعرية.
بتبسيط أشد: أُصدّرُ لك نفطا بأربعين دولارا للبرميل. وصدِّر لي طن الحديد بدولار واحد. وسرعان ما سوف يكتشف الانفعاليون أن عبقرية الالتفاف على الضغوط أعقد من دوافعهم الانتقامية المسطحة.
وفي الواقع، فإن وضع سقف لأسعار النفط والغاز الروسيين هو "تمرين" لاستعراض العضلات ضد كل المنتجين الآخرين، الذين يمكن، لأسباب سياسية أخرى، أن يتعرضوا إلى تهديد مماثل.
ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني القول: دع الفوضى تلعب بعصب الاقتصاد العالمي. دعها تزعزع عوامل السوق وآلياتها. ودعْها تعرّض إمدادات الطاقة إلى أشد العواصف السياسية عنفا.
وماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أن تتحول صناعة الفوضى إلى خراب، لن يكفي لمعالجته تريليونا دولار ولا خمسة آلاف قتيل ولا خمسون ألف جريح، وإنما ثمانية مليارات متضرر في كل أرجاء المعمورة.
وللمرء أن يتساءل: كيف نسي قادة الاقتصادات الكبرى ما وقف وراء استقرار اقتصادهم؟ وكيف يتجرّؤون على تهديد عصب المحركات التي تجعلهم يعملون؟
حتى الجنون لا يكفي لوصف هذا المنقلَب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة