تشيخوف.. "رجل بلا طحال" وأعظم أدباء القصة القصيرة
بساطة تشيخوف أسرت الملايين من مختلف الجنسيات والأجيال حول العالم، واتسمت نصوصه بمزيج مذهل من المأساة والبهجة والحزن والابتسامة
رغم أن الأدب الروسي يحفل بالأسماء الخالدة عبر الأزمان من نوعية تولستوي ودوستويفسكي وتورجنيف ومن قبلهم بوشكين، فإنها ليست مصادفة أن أكثر اسم يتفاعل معه متابعو مواقع التواصل الاجتماعي ويتداولون مقولاته وصوره وقصصه القصيرة هو ذلك الخجول خفيض الصوت صاحب النظارة المستديرة الشهيرة واللحية الأنيقة.
إنه أنطون بافلوفتش تشيخوف.. أسرت بساطته الملايين من مختلف الجنسيات والأجيال حول العالم، واتسمت نصوصه بمزيج مذهل من المأساة والبهجة، والحزن والابتسامة، معتمدة في كل الأحوال على مفارقات ساخرة تطلق دموعك وضحكاتك في آن واحد!
ورغم أن كثيرين ينفرون من "أفعل التفضيل" الذي يعطي أحكاماً مطلقة من نوعية "أقوى" و"أفضل" فإن هناك شبه إجماع بين مختلف الدارسين أنه أعظم من كتب القصة القصيرة في العالم.
ولا يمكننا هنا إلا أن نضرب مثلاً بـ"موت موظف" تلك القصة العبقرية الخالدة التي تحكي عن موظف عطس في حفل عام فإذا بالرذاذ يتناثر على "قفا" شخصية مهمة في السلك الحكومي، ويصر الموظف على الاعتذار المتكرر رعباً وخوفاً على حياته ورزقه.
وعبثاً يحاول المسؤول إقناعه أنه نسي هذا الموقف العبثي المحرج، إلا أن الموظف لا يقتنع ويطارد المسؤول لتكرار الاعتذار فيفيض الكيل بالأخير وينهره متهماً إياه بالسخرية منه، فينهار الموظف البريء رعباً ثم يموت!
وُلد تشيخوف بمدينة تاغانروغ بجنوب روسيا في 29 يناير/كانون الثاني عام 1860، وكان الابن الثالث بين 6 أخوة لأب اعتاد كثرة الإنجاب، وكان هذا الأب هو ابن أحد العبيد فاعتاد ضرب أبنائه بالسوط كما كان يفعل أبوه معه.
أما "جد تشيخوف" فكان بدوره يضرب أبناءه بالسوط أيضاً وبالقسوة التي كان يضربها به الإقطاعي الذي يمتلكه! هذه الدورة من القهر وتحول الضحية إلى جلاد التي رواها تشيخوف نفسه تعطينا لمحة سريعة عن شكل الطفولة التي عاشها واحد من أكثر البشرة موهبة وحساسية.
ويتعرض الأب لضائقة مالية تلو أخرى، فيضطر لإشهار إفلاسه بسبب عجزه عن دفع أقساط ديونه التي اقترضها لاقتناء منزل جديد، وهرباً من مصير مظلم، تغادر الأسرة إلى العاصمة موسكو بينما يبقى تشيخوف في مدينته الجنوبية، هنا يجد نفسه مضطراً لإعالة نفسه ودفع نفقات تعليمه وهو لا يزال ابن الـ16، ويعمل مدرساً خصوصياً للأطفال، ويصطاد الطيور ويبيعها، وحين يلتحق بكلية الطب يتجه للكتابة كمصدر دخل، فيكتب مقالات فكاهية ومسرحيات هزلية خفيفة في صحف تجارية مستعدة لأن تدفع لكاتب مغمور.
وكانت كتاباته تجارية بحتة يوقعها باسم فكاهي مستعار هو "رجل بلا طحال".. بعد ذلك، اتجه للكتابة الأدبية الحقيقية التي تكشف موهبة غير مسبوقة التي ستصل به في النهاية لروائع خالدة تصنف ضمن خانة "القصة الطويلة" مثل: "الراهب الأسود"، و"البيت ذو العلية"، و"المرأة صاحبة الكلب" فضلاً عن إبداعاته في المسرح، مثل: "الخال فانيا" و"بستان الكرز" و"النورس".
وعندما توفي والده، ذهب إلى مدينة يالطا مصطحباً أمه وشقيقه، وزوجته، حيث بنى فيلا بحثاً عن الهدوء والاستشفاء من مرض السل الذي أُصيب به مؤخراً، وكان مرضاً قاتلاً في ذلك الزمان، وكان يزرع الورود ويربي الكلاب ويعالج الفقراء مجاناً ويستقبل أصدقاءه من عمالقة الأدب الروسي مثل تولستوي ومكسيم جوركي.
وفي 15 يوليو/تموز عام 1904 كان العبقري الزاهد على موعد مع مشهد الختام الذي ترويه زوجته أولجا، إذ استيقظ من النوم وقال بنبرة قوية: "أنا على شرفة الموت! فأعطاه الطبيب حقنة مهدئة وأمر بإحضار كأس شراب له، شرب أنطون الكأس كاملاً وابتسم لزوجته قائلاً: "لقد مضى زمن طويل منذ أن شربت هذا الشراب"، ثم نام على جانبه الأيسر بهدوء وحين نادت عليه لم يرد، توقف عن التنفس، وكان ينام بسلام وكأنه طفل!
aXA6IDMuMTM4LjExOC4xOTQg
جزيرة ام اند امز