مصير العراق وشعبه على المحك ثمناً لصفقات سياسية دنيئة لا تعرف للشعب مكانة ولا للدماء حرمة ولا للأوطان حرية وسيادة
منذ انطلاق الحراك العراقي، شأنه شأن أي حراك شعبي، بدأت الخطابات السياسية والتيارات الحزبية التي تحاول نسبه لنفسها؛ مرةً بتأييد مطالبه وأخرى بمواكبته لتلتف عليه بغية استمالته ليتخذها قيادة له فتفرض كلمتها على القرار العراقي بذريعة تأييد الشعب لها، وهذا ما فعله زعيم التيار الصدري محمد باقر الصدر الذي قام بمناورة خبيثة محاولاً الهروب إلى الأمام، عندما أيّد المتظاهرين وساند مطالب الحراك العراقي الذي وصفه بالثورة المحقة، مطالباً القادة السياسيين – كأنه ليس منهم – بالانصياع لمطالب الحراك المعبرة عن إرادة الشعب العراقي ككل مستقلاً مكانته الدينية، معتقداً أن العمامة تمنحه قدسية أو صك براءة من أفعال السياسيين والتيارات التي لا هم لها سوى المصالح الشخصية، وفي أحسن الأحوال مغلّبةً المصالح الحزبية متناسية المصلحة الوطنية أو الشعبية, إلا أن هذه المناورات لا يمكن لها أن تمر على شعب ضاق ذرعاً بالشعارات والخطابات زهاء عقدين من الزمن.
وعندما اتضح للجميع أن الحراك الشعبي لا يستثني تياراً ولا زعيماً سياسياً محملاً الجميع مسؤولية ما وصل إليه العراق من فساد وتبعية، رافضاً أي مزايدة على مصلحة العراق الوطنية ضارباً عرض الحائط كل مخطط أو أجندة خارجية، نزع "الصدر" عمامته السوداء مستبدلاً بها قبعة زرقاء.
الأمر الذي يجعل الحراك العراقي أمام تحدٍ كبير ومسؤوليات جسام ليس من باب تحميل الشعوب المسؤولية إنما من باب أنه قدّر لها أن تكون بمواجهة مع العملاء الذين لا يتورعون عن بيع الأوطان والتجارة بدماء الشعوب
وليس من قبيل الصدفة أو النية الحسنة أن تدخل مجموعة "القبعات الزرقاء" التي تأتمر بأمر الصدر على خط الحراك العراقي متزامنة مع تصريحات قادة مليشيات الحشد والمسؤولين العسكريين الذي لا يرون حلاً للأزمة إلا بقوة السلاح وبأن المتظاهرين لا توصيف لهم إلا بكونهم حفنة من الصعاليك والعملاء لأمريكا والسفارات الخارجية التي تشتريهم بحفنة من الدولارات؛ تصريحات تدعو سامعها إلى الضحك كون قائليها يتشدقون بها كأنهم لم يأتوا يوماً إلى العراق على ظهر الدبابة الأمريكية أو أن انصياعهم للسفارة الإيرانية والامتثال لما يمليه عليهم قادة الحرس الثوري الإيراني ليس عمالة، ولا هو تحرك بأمر من السفارات لينطبق عليهم المثل العراقي القائل "تعيّرني بعارها".
في واقع الأمر ليست تلك التصريحات إلا محاولات يائسة لاستفزاز الشارع العراقي الثائر عله ينحرف عن مساره السلمي ودخول مربع العنف الذي تجيد تلك المليشيات اللعب به، بل إنها لا تصلح ولا تعقل إلا لغة السلاح والدم والإجرام، فتكد الجهد وتحث الخطى بغية الانزلاق بالحراك إليه، ولكن هذا الأمر لا يمكن له أن يتم والشعب العراقي موحد في جانب وتلك المليشيات في جانب آخر، ما يفسر ولادة ما يسمى "القبعات الزرقاء" التي روّج لها بأنها مجرد مجموعات سلمية عزلاء تعمل على حماية المظاهرات وفتح الطرق ليتم تسويقها لاحقاً على أنها شارع شعبي مؤيد للحكم يقابل شارعاً شعبياً ثائراً بما يسمح لتهيئة الأجواء لصدامات تفتح الباب أمام مليشيات إيران لتمرير مخططها الأمني القائم على إشعال الوضع واجتثاث كل من يناهض مشروعها التدميري، فليس من المستبعد بل ويمكن أن نقول من المؤكد أن إدخال تلك المليشيات المتقنعة بجماعات ما يسمى "القبعات الزرقاء" ما هو إلا كيان مزروع وفق خطة مدروسة لتعبث بعض الأيادي بدماء العراقيين محولة الشارع العراقي إلى عنف مستعر، إن عرف من أشعله وكيف أشعله فإنه من المحال أن تُعرف نهايته أو آلية إخماده، ولكن كل ما يمكن التكهن به هو أن ما بين العمامة السوداء والقبعة الزرقاء – إن تحقق لها مطلبها – أنهارا من الدماء الحمراء لشعب لم يعرف الاستقرار منذ عقود.
كل ذلك يضع مصير العراق وشعبه على المحك ثمناً لصفقات سياسية دنيئة لا تعرف للشعب مكانة ولا للدماء حرمة ولا للأوطان حرية وسيادة؛ الأمر الذي يجعل الحراك العراقي أمام تحد كبير ومسؤوليات جسام، ليس من باب تحميل الشعوب المسؤولية إنما من باب أنه قدّر لها أن تكون بمواجهة مع العملاء الذين لا يتورعون عن بيع الأوطان والتجارة بدماء الشعوب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة