لابد من العمل على تنبيه الوعي العربي لمشروع أردوغان، الساعي إلى تفتيته عبر اتخامه بشعارات الإسلام السياسي
واحدة من أخطر تداعيات الأزمة الليبية والدخول التركي على خط هذه الأزمة، بكل ما تملكه أنقرة من مشاريع أيديولوجية وأحلام إمبراطورية حملتها على أجنحة الإسلام السياسي، هو ما يتصل بسوريا والإنسان السوري.
في متابعة عناوين ومانشيتات الأخبار، يُصدم المتابع بمصطلح "المرتزِقة السوريون في ليبيا".. هذا المصطلح الذي أثار في بداية تداوله الكثير من الاستهجان، إن لم نقل الصدمة، أصبح مع تكراره يبدو طبيعياً ويتكرس تدريجياً في نشرات الأخبار وصولاً الى العقول ليصبح رويداً رويداً بحثاً كبيراً في كتاب التاريخ الذي سيدون وقائع هذه المرحلة الزمنية، بكل ما فيها من تداعيات ومشاريع ومخططات ومصالح تصل شرق كوكب الأرض بغربه وشماله بجنوبه.
لا بد العمل على تنبيه الوعي العربي لمشروع أردوغان، الساعي إلى تفتيته عبر اتخامه بشعارات الإسلام السياسي مع حلفائه من الإخوان المسلمين، بعد أن تحول هذا الوعي إلى ثغرة يحاول أردوغان ومن لفّ لفّه التسلل عبرها لتحقيق أجندتهم التوسعية، وتحقيق مصالحهم الاقتصادية والسياسية
سيقرأ الأشقاء الليبيون في فترة لاحقة في كتب تاريخ بلدهم أن مرتزقة سوريين جاؤوا إلى بلدهم وقتلوا أهلهم ودمروا مدنهم، ومن ثم سيبقى الإنسان السوري في ذاكرة الليبي وحشاً بشرياً فتك بهم، وأذاقهم مرارات ستنتقل من جيل إلى جيل.
في الشكل الظاهر للعيان، مؤكد أن هناك عشرات البواخر والطائرات التركية قد حملت مئات المقاتلين السوريين إلى الأراضي الليبية للانخراط في القتال إلى جانب المشروع التركي في ليبيا، الذي صار معروفاً للجميع، من حيث أهدافه الاقتصادية والأيديولوجية والنزعة الإمبراطورية، وهي أهداف ساقطة لا محالة بإرادة الشعب الليبي، الذي لن يتنازل عن حقه في تقرير مصيره والنضال، ليبقى ضمن إطاره الحيوي والطبيعي الذي يضمن لأجياله المقبلة العيش بكرامة في وطنهم يتنعمون بثرواته الكبيرة جداً، التي لم ينالوا منها سوى النزر اليسير خلال العقود الماضية من تاريخ استقلالهم عن الاستعمار الإيطالي.
ولكن من حيث المضمون لقضية المقاتلين السويين في ليبيا أبعاد أخرى يجب أن يفهمها الجميع، وهنا يبرز مرة أخرى الدور الحيوي للإعلام والقائمين عليه لوضع الأمور في نصابها الطبيعي وكي لا نقع وتقع أجيالنا في مغالطات وأخطاء تاريخية قد تستغرق قروناً من الزمن لتصحيحها.
البداية تبدأ بقطع الطريق على مروجي مصطلح "المرتزقة السوريين" واستبداله بمصطلح "مرتزقة تركيا.. أو مرتزقة أردوغان"؛ لأن هذه هي الحقيقة وما عداها تزوير وتضليل.
عند التواصل مع معارف وأصدقاء في مناطق سورية تقع تحت سيطرة تركيا أو أذرعها من الفصائل المتشددة والمُصنفة دولياً إرهابية، يتم الوقوف على حقيقة الموضوع.
وما يجب أن يعرفه الجميع أن هؤلاء المقاتلين الذين تزج بهم تركيا في معاركها المشبوهة يتم تجنيد غالبيتهم العظمى عن طريق الإجبار وبالقوة أو الابتزاز.
فبعد أن دمرت تركيا وعملاؤها الفكر والإرث والثقافة السورية في المناطق التي سيطروا عليها، واستبدلت كل مدنيّة وحضارية وتسامح السوريين التاريخي بفكر متطرف، مستخدمين كل أساليب ووسائل الترهيب والترغيب، هيأت الأرض وساكنيها لاستخدامهم في معاركها وحروبها الداخلية والخارجية، مستغلة الظرف التاريخي الاستثنائي الذي تمر به سوريا وشعبها، والمجال هنا لا يسمح لسرده.
ثم، والكل أيضاً يعلم أن المناطق التي سيطرت عليها أنقرة والفصائل التي أنشأتها في الأراضي السورية من ذوي الأفكار المتطرفة، ربطتها اقتصادياً بها، حيث دمرت الزراعة والصناعة واستولت على الثروات، وجعلت التجنيد هو مصدر الرزق شبه الوحيد لهم، وبالتالي أفقرت مناطقهم اقتصادياً وجعلت "الارتزاق" لها مصدر رزقهم.
يضاف إلى كل ذلك أن هذه المناطق المفتوحة على المشيئة التركية يقابلها على الطرف الآخر حرب ضروس من قبل جيش النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين، بكل ما فيهم من قوى وتشكيلات عسكرية بات الجميع على علم بأدق تفصيلاتها.
ليصبح التوصيف الوحيد لهذه الظاهرة بأن التاريخ يعيد نفسه والذاكرة الجمعية السورية راسخ فيها زمن "الأخذ عسكر-وسفر برلك"، الذي مارسته السلطنة العثمانية عليهم، حيث حملت الشباب السوري بالقوة ورمته في معاركها في فترة نزاعها الأخير قبل أفولها وسقوطها النهائي.
وسورياً أيضاً، فإن الإنسان السوري على مختلف انتماءاته القومية والدينية والمذهبية لم يكن في تاريخه مرتزقاً لأحد، وما تفعله تركيا اليوم ببعض الشباب السوري مرفوض من الغالبية العظمى جملة وتفصيلاً.
السوري الذي يواجه اليوم أكبر محنة في تاريخه لا يزال يؤمن بأن سلامه وأمنه الحقيقيين إنما في عمقه العربي، ولن يقبل أبداً أن يُكتب سطراً واحداً في تاريخه، ما يحاول نظام حزب العدالة والتنمية في تركيا كتابته زوراً وبهتاناً بوسائل تتنافى مع كل القيم والأعراف الإنسانية.
وللأخوة الليبين، المأمول منكم ألا تأخذكم هذه الأفعال إلى سُبل الشقاق والكراهية لشعب تشاركتم معه لعقود طويلة من الزمن الحياة بكل تفاصيلها، سواء في دمشق أو في طرابلس وبنغازي وأجدابيا ومصراتة وغيرها من المدن والحواضر الليبية.
ولن تنسوا أبداً أن الإنسان السوري جاءكم نصيراً لمعاركم ضد مستعمريكم، ومدرساً ومعلماً وأستاذاً جامعياً وطبيباً ومهندساً وبنّاء وعاملاً.. شارككم نهضتكم بكل ما يملك من خبرات ومهارات.
والمطلوب أيضاً من النخب السورية، بكل انتماءاتها، إعلان موقف واضح وصريح لتبديد أي التباس في هذه القضية، وتعميمه والدفاع عنه إنسانياً وأخلاقياً ووطنياً وعروبياً.
ولجميع المسؤولين في غرف الأخبار العربية الانتباه جيداً لهذه الحقائق، والتدقيق بأن أردوغان لم يرتزق بضعة مئات من السوريين وزجهم في حربه الظالمة في ليبيا فقط، وإنما ارتزق آلافاً آخرين من جنسيات أفريقية وآسيوية كثيرة أخرى، مستغلاً ظروف بلدانهم، سواء لناحية عدم الاستقرار الأمني، أو الفقر والتهميش الذي يتعرضون له.
لذلك كله، لا بد العمل على تنبيه الوعي العربي لمشروع أردوغان الساعي إلى تفتيته عبر اتخامه بشعارات الإسلام السياسي مع حلفائه من الإخوان المسلمين، بعد أن تحول هذا الوعي إلى ثغرة يحاول أردوغان ومن لفّ لفّه التسلل عبرها لتحقيق أجندتهم التوسعية، وتحقيق مصالحهم الاقتصادية والسياسية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة