تراجع مناطق الاشتباك والقتال في سوريا إلى ما يقارب اثنين بالمئة وتحديداً فيما تبقى من إدلب
إرهاصات الافتراق بين موسكو وأنقرة تتراكم بشكل غير مسبوق منذ بداية ما يمكن تسميته "التفاهم على الاشتباك" بينهما على ساحة الصراع السورية.. ظل الموقف المشترك للدولتين غير مستوف لشروط التطابق ولا حتى مقومات الاستمرار إلى مالا نهاية، فكل طرف يقف، مع، أو في مواجهة الطرف الآخر عسكرياً وسياسياً واستراتيجياً تبعاً لما تقتضيه مصالحه وأهدافه..
مع تراجع مناطق الاشتباك والقتال في سوريا إلى ما يقارب اثنين بالمئة وتحديداً في ما تبقى من إدلب، فإن مستقبل علاقات روسيا وتركيا يطفو على السطح مجددا، لأنه كلما تقلصت مساحة الاشتباك العسكري، اتسعت دائرة الرؤية وتسلط الضوء على مسارات هذه العلاقة وآفاقها اللاحقة وخواتيمها
استثمر الجانبان، كل حسب أساليبه وغاياته، كثيراً من المنعطفات والتعرجات والتشابكات الإقليمية والدولية في سوريا لمصلحته وأحياناً لمصلحة مشتركة كانت تفرضها تكتيكات لا تتعدى حدود الموقف الراهن ولا تمتلك أسس البناء عليها لتكون ذات صبغة استراتيجية، التكتيك هو الذي طبع مسيرة العلاقات الروسية - التركية عبر النافذة السورية التي شرعتها الحرب والصراعات الداخلية والخارجية على أبواب المجهول، ولا يبدو أن هذا التكتيك قابل أو مؤهل للبناء عليه أكثر مما يحتمل حتى الآن..
هي علاقة مرحلية أملتها ساحات الاشتباك، العسكرية منها والسياسية، ووعي الطرفين لخطورة الصدام أو الحرب أو حتى الاشتباك بينهما، وعيٌ مدفوع بحسابات متناقضة لكل طرف منهما حيال الآخر، وغايات مغلفة بالابتزاز للقوى الإقليمية والدولية المنخرطة منها بالأزمة السورية أو تلك التي تناهض سياسة أحدهما.. شكلت ساحة الصراع السورية مختبراً استثنائياً لتحليل وتشخيص وتطوير علاقات روسيا بوتين مع تركيا أردوغان..
منذ انخراطها عام 2015 في الصراع السوري بجميع مساراته السياسية والدبلوماسية والعسكرية، وجدت موسكو نفسها في مواجهة علنية مع أكبر قوة إقليمية في الخندق المضاد لها ولحليفتها دمشق..
احتكاكات عدة حدثت بين الجانبين على الساحة السورية، أجندات واستراتيجيات متعارضة في سوريا حاضراً ومستقبلاً، تباين واختلاف أهداف، وحدها الوسائل والأساليب لدى الجانبين كانت ذاتها، أي تبني كل طرف منهما فريقاً من فرقاء الصراع ودعمه وتغطيته عسكرياً في ساحات المعارك ومناطق النفوذ المتاحة لكل طرف، وسياسياً في أروقة الدبلوماسية الإقليمية والدولية، هكذا بدا المشهد في البداية، ولكن سرعان ما اغتنم الجانبان الروسي والتركي فرصة بلورة قواسم مشتركة بينهما وبناء علاقات ثنائية على قاعدة المصالح المشتركة التي من شأنها تحقيق غايات ومرامي كل طرف دون خسائر تذكر، بل تمكنا أحيانا من توظيف علاقتهما في مواجهة تحديات خارجية واسعة، فضلاً عن بعض التحديات الداخلية..
الشراكة الروسية - التركية في ملفات سورية؛ آستانا، سوتشي، وصمت موسكو عن العدوان التركي واحتلاله أراضي سورية في الشمال، ومداراتها لإعلان أنقرة إنشاء منطقة آمنة في شمال سوريا، وتفاهماتهما حول غوطة دمشق وشرق حلب وجنوب سوريا؛ جميعها ظلت مثار استفسارات وتساؤلات محورها واحد: كيف أمكن أن يتفاهم طرفان متجابهان في ساحات القتال بطريقة غير مباشرة؟ ليتطور التساؤل والاستفسار إلى ما هو أعمق وجوهره: لماذا يتفاهم الطرفات الدوليان، روسيا وتركيا، ويتفقان في مجمل تفاصيل الملف السوري، رغم أن كل جانب منهما يخوض ويدير حرباً ضد الآخر بالنيابة عن جيوشهما النظامية الرسمية؟
وجدت موسكو في تركيا بوابة ملائمة للولوج إلى عالم لطالما أرهقها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وهو العالم الغربي بمفهومه المدني، وعالم حلف شمال الأطلسي بهويته العسكرية، وبدت لها الفرصة سانحةً عبر الساحة السورية كجسر عبور وتلاق لا يقتضي دفع أثمان باهظة، وهي في طريقها لتحقيق عدة غايات؛ منها المعنوي؛ أي إحداث نوع من الخلخلة في أسرة الناتو ووحدتها، وإشاعة ما يشبه الاضطراب في ذهنية الأوروبيين خصوم أردوغان ورافضي قبوله في النادي الأوروبي، ومنها المادي متمثلاً بصفقات السلاح والتعاون في مجال الطاقة والغاز والتعاون النووي السلمي.
أردوغان يدرك جيداً أن لا مستقبل لبلاده خارج منظومة حلف شمال الأطلسي، وهو الذي لم يترك سبيلاً في محاولته للولوج إلى النادي الأوروبي، لكن الرفض لعضوية تركيا مستمر؛ فكيف الحال لو أن أنقرة شكلت حلفاً مع موسكو؟ أهدافه في سوريا تكشفت وترجمها احتلالاً واغتصاباً لمدن سورية في الشمال وتبنياً لمنظمات إرهابية وافدة من مختلف أصقاع الأرض؛ فتح لها الحدود لتعيث فساداً وقتلاً وتدميراً في سوريا، وكذلك نهجه مع المسلحين السوريين الذين رعاهم حتى تحققت أهدافه ثم أدار ظهره لهم ليواجهوا مصائرهم المجهولة بمن فيهم أولئك الذين أذعنوا لرغبات سيدهم العثماني وتحولوا قتلةً مأجورين، كما الحال بالنسبة لمن أرسلهم إلى ليبيا.
بوتين برهن على أن نهجه وسياسته في سوريا لا تتوقف عند حدودها الجيوسياسية فقط، بل إن مشروعه يتطلع لجعل سوريا قاعدة انطلاق صوب أهداف جيواستراتيجية، استثمر شخصية أردوغان الطامعة، المؤدلجة، المتقلبة، كثيراً في حساباته دون التنازل عن أي تعهد أو مبدأ تبناه متعلق بواقع الوضع السوري راهناً ومستقبلاً؛ حقق حتى الآن جميع أهداف مشروعه على امتداد البلاد سياسياً وعسكرياً، وأحدث نوعاً من الاضطراب في المشهد الأطلسي باقترابه من أردوغان حدوداً مثيرة لقلقهم وتحديداً صفقة صواريخ إس 400، وعمّق علاقات بلاده مع معظم دول المنطقة، وبات شريكاً رئيسياً في مشاريع المنطقة، كل ذلك على قاعدة الاستثمار السياسي المدروس والمتقن.
مع تراجع مناطق الاشتباك والقتال في سوريا إلى ما يقارب اثنين بالمئة وتحديداً فيما تبقى من إدلب، فإن مستقبل علاقات روسيا وتركيا يطفو على السطح مجددا، لأنه كلما تقلصت مساحة الاشتباك العسكري، اتسعت دائرة الرؤية وتسلط الضوء على مسارات هذه العلاقة وآفاقها اللاحقة وخواتيمها.. أردوغان بات اليوم مأزوماً أكثر بفعل ألاعيبه أمام شركائه قبل خصومه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة