الخلاصة أن حرب التجارة والسياسات الاقتصادية في الدول الكبرى قد تدفع العالم كله إلى الدخول سريعا في حالة من تباطؤ ملحوظ.
انعكست آثار سياسة الحماية التجارية التي تتبعها الإدارة الأمريكية وما أعقبها من تصعيد لحرب التجارة مع الصين، في آثار انكماشية في بعض من أهم القوى التجارية الدولية، قبل أن تنعكس مباشرة بشكل واضح على طرفي هذه الحرب المباشرين. ومن المتوقع أن يتعمق الاتجاه العالمي نحو تباطؤ النشاط الاقتصادي، خلال العام المقبل، إذا ما استمر تصعيد النزاعات التجارية، إلى جانب الآثار المنتظرة للسياسات الاقتصادية الأمريكية داخليا وعالميا.
الانكماش يطل برأسه
انكمش الاقتصاد الياباني في الربع الثاني من العام (يوليو- سبتمبر)، بمعدل 1.2% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، بعد أن كان المتوقع ألا يتجاوز هذا الانكماش 1%، وعلى حين ترى الحكومة أن هذا الانكماش نتيجة عوامل طبيعية مثل زلازل وأعاصير حدثت خلال تلك الفترة، إلا أن بعض المحللين يشيرون إلى انخفاضات مزعجة في الصادرات، في ظل تباطؤ الطلب الصيني على السلع اليابانية بسبب تداعيات النزاعات التجارية مع الولايات المتحدة، وقد سجلت الصادرات انخفاضا بنسبة 1.8% في الفترة (يوليو-سبتمبر)، وهي أكبر نسبة انخفاض خلال أكثر من ثلاثة أعوام. ويخشى من أثر ممتد لحرب التجارة في حال تطورها، لأنها تهدد صادرات اليابان من مكونات السيارات والإلكترونيات والآلات الدقيقة، خاصة للصين الشريك التجاري الأول لليابان.
الخلاصة أن حرب التجارة والسياسات الاقتصادية في الدول الكبرى قد تدفع العالم كله إلى الدخول سريعا في حالة من تباطؤ ملحوظ في النشاط الاقتصادي، إن لم يكن ركودا اقتصاديا شديدا في بعض البلدان.
كما انكمش الاقتصاد الألماني للمرة الأولى منذ عام 2015، في الربع الثالث من العام الحالي أيضا، بتأثير من النزاعات التجارية العالمية، وقد بلغ معدل الانكماش 0.2% مقارنة بالربع الثاني من العام. وخلال الفترة من يناير إلى سبتمبر من العام الحالي نما الاقتصاد بمعدل 1.1% فقط، مقارنة بنفس الفترة خلال العام الماضي. وحسبما تشير وكالة رويترز للأنباء، فقد خفضت غرف الصناعة والتجارة الألمانية توقعاتها للنمو في العام الحالي 2018 إلى 1.8% مقابل توقعات سابقة كانت تضع معدل النمو عند 2.2%، كما توقعت انخفاضا آخر خلال العام المقبل ليسجل معدل النمو 1.7% فقط.
الصين وألمانيا واليابان
عملت الصين، خلال الأعوام العشرة الأخيرة، على التحول من اقتصاد يعتمد على الصادرات كقاطرة للنمو إلى اقتصاد يحاول إعادة التوازن الاقتصادي عن طريق التحول من نموذج النمو المستند للطلب الخارجي إلى الطلب الداخلي. وقد أتى ذلك في الحقيقة، جزئيا، نزولا على ضغوط من الكثير من الدول المتقدمة التي واجهت منافسة ضارية من قبل المنتجات الصينية في الأسواق الدولية وفي أسواقها الداخلية، كما أنه كان مطلبا ركزت عليه بعض المؤسسات المالية الدولية -مثل صندوق النقد الدولي- بإلحاح.
وكانت نتيجة هذا التحول انخفاض فائض الحساب الجاري للصين من 9.9% من الناتج المحلي الإجمالي في 2007 إلى 1.3% في عام 2017، وتشير التقديرات إلى أنه سيكون في حدود 1% فقط خلال العام الحالي 2018. وبالمقارنة مع كل من ألمانيا واليابان نجد أن فائض الحساب الجاري في عام 2017 بلغ 165 مليار دولار في الصين، وهو ما يقل كثيرا عن الفائض الذي حققته ألمانيا وهو 297 مليار دولار، واليابان 195 مليار دولار.
ومع التأثر الواسع للصادرات الصينية للولايات المتحدة سيتعزز مثل هذا التدهور في تجارة كل من ألمانيا واليابان مستقبلا، لأن الكثير من السلع التي تصدرها الصين للسوق الأمريكي تدخل في صنعها مكونات من البلدين.
السياسة الاقتصادية الأمريكية
إلى جانب سياسة الحماية التجارية، من المنتظر أن يكون للسياسات المالية والاقتصادية الأمريكية تأثير واضح على النمو الاقتصادي العالمي خلال الفترة المقبلة. فقد سعت إدارة ترامب والحزب الجمهوري، في ظل سيطرته على كل من مجلسي الكونجرس، لاعتماد خطة لتوسع مالي ضخم. وقد استندت هذه الخطة إلى تخفيضات ضريبية كبيرة، وكذا زيادة سريعة وضخمة في الإنفاق الحكومي، ما أدى إلى حدوث عجز غير مسبوق في الميزانية. ولما كان هذا التوسع المالي تم في وقت كانت ما زالت فيه السياسة النقدية ميسرة نسبيا حيث كانت أسعار الفائدة عند مستويات منخفضة تاريخيا، وفي ظل حالة من الانتعاش الاقتصادي النسبي؛ انعكست آثار تلك السياسات المالية والنقدية في شكل ارتفاع ملحوظ في مستوى التضخم. وكانت الانعكاسات المباشرة وغير المباشرة لهذه السياسات المالية والنقدية سلبية على التجارة الأمريكية لسببين رئيسيين:
الأول هو لجوء مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى تشديد السياسة النقدية باللجوء إلى رفع أسعار الفائدة لمحاربة التضخم الذي بدأ في الارتفاع بسرعة، حيث تم رفع سعر الفائدة ثلاث مرات، منذ بداية هذا العام، ومن المنتظر رفعها مرة أخرى في شهر ديسمبر المقبل. وتميل التوقعات أيضا إلى رفع أسعار الفائدة مرتين أخريين خلال النصف الأول من العام المقبل. ويؤدي رفع أسعار الفائدة إلى التأثير سلبا في الاستثمار مع ارتفاع تكلفة رأس المال، ما سيخفض معدل النمو. كما سيؤدي إلى ارتفاع سعر صرف الدولار أمام بقية العملات، حيث ستغري أسعار الفائدة المرتفعة رؤوس الأموال، خاصة قصيرة الأجل، بالتدفق نحو الولايات المتحدة، وبالتالي زيادة الطلب على العملة الأمريكية.
وبالطبع من شأن ارتفاع سعر صرف العملة الأمريكية أمام عملات بقية البلدان، خاصة الشركاء التجاريين الرئيسيين، أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الأمريكية في الأسواق الأجنبية، ومن ثم خفض تنافسيتها، والعكس بالنسبة للسلع الأجنبية حيث تصبح أرخص نسبيا في السوق الأمريكي مقارنة بالسابق.
إلى جانب كل ما سبق، فسياسة الحماية التجارية ورفع الرسوم الجمركية على السلع الصينية في السوق الأمريكي، خاصة سلع الاستهلاك الجماهيري الواسع ستعزز من ارتفاع معدلات التضخم، إضافة إلى أن ارتفاع أسعار المكونات الصينية المستوردة، والتي تدخل في صناعة سلع أمريكية، سيرفع من أسعار هذه السلع ويحد من ثم، نسبيا، من القدرات التنافسية التي كانت عليها هذه السلع في السابق.
أما السبب الثاني للآثار السلبية للسياسات الاقتصادية الأمريكية على التجارة فيتعلق بسوق العمل، حيث كانت معدلات البطالة، عندما تسلم ترامب الحكم في بداية عام 2017، منخفضة نسبيا وتبلغ 4.7%، فقد استمر معدل البطالة في الانخفاض مع التوسع المالي واستمرار الانتعاش الاقتصادي ليسجل 3.7% وهو أقل مستوى له منذ نحو نصف قرن. وكانت النتيجة المباشرة هي ارتفاع الأجور في الولايات المتحدة خلال العام الحالي بأعلى وتيرة لها منذ نحو تسعة أعوام، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا الارتفاع في الأجور على ارتفاع أسعار السلع الأمريكية، وهو ما يحد نسبيا أيضا من تنافسية هذه السلع في الأسواق العالمية.
الأسواق الناشئة والدول النامية
ومع تفجر أزمة مالية في بعض الأسواق الناشئة في الصيف الماضي، دفع ذلك الكثير منها إلى رفع أسعار الفائدة بمعدلات كبيرة، وهو ما سيؤثر سلبا على معدلات النمو الاقتصادي في هذه البلدان، أضف إلى ذلك أن حروب التجارة والتباطؤ المنتظر في معدلات النمو ستعمل على الحد من الطلب على العديد من السلع الأولية، ومن بينها النفط، ما يهدد أيضا بانخفاض معدلات النمو في كثير من الدول النامية المصدرة لهذه السلع، والخلاصة أن حرب التجارة والسياسات الاقتصادية في الدول الكبرى قد تدفع العالم كله إلى الدخول سريعا في حالة من تباطؤ ملحوظ في النشاط الاقتصادي، إن لم يكن ركودا اقتصاديا شديدا في بعض البلدان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة