ليس من الغريب أن يعود الرئيس الذي بدا واثقا في قدرته على الانتصار في حرب التجارة للقول إن المحادثات التجارية مع الصين لم تنهر
فيما بدت لهجة تهديد قوية تحمل رسالة محملة بالطمأنينة والثقة لإعادة انتخابه في موقعه الرئاسي خلال العام المقبل، خاطب الرئيس الأمريكي المسؤولين الصينيين قائلا إن "من الحكمة أن تتحرك الصين الآن لإنهاء صفقة تجاريه مع الولايات المتحدة الأمريكية"، وحذر من أنه سيعرض عليهم شروطا أسوء بكثير من تلك المعروضة عليهم الآن بعد إعادة انتخابه في 2020.
على الرغم من كل هذا.. فليس من الغريب أن يعود الرئيس الذي بدا واثقا في قدرته على الانتصار في حرب التجارة للقول إن المحادثات التجارية مع الصين لم تنهر، ووصف حرب التعريفات الجمركية الأمريكية الصينية المتزايدة بأنها "مشاحنات صغيرة"!!
أما واقع تطور الأمور على الأرض فقد عكس حالة من الارتباك والخشية من الاحتمال العكسي، أي قدرة الصين في التأثير على توجهات الناخب الأمريكي خلال الفترة الممتدة من الآن وحتى الانتخابات التي ستجرى بعد نحو عام ونصف عام من الآن، وهذا التأثير يرتبط بالطبع باستمرار وتصاعد الحرب التجارية بين البلدين.
وربما يكون القلق الرئيسي هو من استهداف الصين قطاعات محددة وعلى رأسها قطاع الزراعة؛ حيث تزيد تقليديا فرص تأييد المرشح الجمهوري في الولايات الزراعية، كما كانت هذه الولايات من بين أهم الولايات التي منحت تأييدها للرئيس ترامب.
وترجع هذه الخشية إلى كون الصين هي رابع أكبر مستورد للسلع الزراعية الأمريكية؛ حيث بلغت الصادرات الأمريكية من المنتجات الزراعية للصين نحو 9.3 مليار دولار في عام 2018، وهو عام تأثرت فيه هذه الصادرات سلبا لبعض الوقت نتيجة فرض رسوم جمركية انتقامية في شهر سبتمبر الماضي من قبل الصين على وارداتها الزراعية، بعد أن سبق وفرضت الولايات المتحدة رسوما على الصادرات الصينية.
ويرى البعض أنه كان هناك بعض التأثير لهذه الرسوم الصينية على اتجاهات التصويت في الولايات الزراعية في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في شهر نوفمبر الماضي، وكانت أهم الصادرات خلال العام الماضي هي فول الصويا (3.1 مليار دولار)، والقطن (924 مليون دولار)، والجلود (607 مليون دولار)، والحبوب الخشنة مثل الذرة (571 مليون دولار). لذلك كان من الملاحظ أن الهدف الأكبر الذي سعى له الرئيس الأمريكي هو انتزاع موافقة الصين على زيادة وارداتها من السلع الزراعية مرة أخرى، وذلك عند لقائه بالرئيس الصيني في بداية شهر ديسمبر الماضي في الأرجنتين على هامش قمة العشرين، واتفاقهما على هدنة لمدة ثلاثة أشهر في حرب التجارة بينهما.
وجاء تعقيب ترامب على هذا الاتفاق بقوله "هذا اتفاق رائع.. سأحجم عن فرض رسوم جمركية، وستنفتح الصين، ستتخلص الصين من الرسوم". وأضاف أنه بموجب الاتفاق ستشتري الصين "كميات كبيرة من المنتجات الزراعية وغيرها" من الولايات المتحدة، وأكد أن هذا "سيكون له تأثير إيجابي للغاية على الزراعة".
وقد عادت من جديد المخاوف من تصاعد حرب التجارة مع العودة لزيادة الرسوم الجمركية الأمريكية إلى 25% بدلا من 10% على سلع صينية تبلغ قيمتها 200 مليار دولار، ورد الصين بإعلان أنها ستفرض رسوماً أعلى على واردات أمريكية تبلغ قيمتها 60 مليار دولار بدءا من أول يونيو المقبل.
وربما كانت أول الدلائل على عودة المخاوف من تأثر المزارعين هو ما نشرته وكالات الأنباء من اشتداد المعارضة لسياسات "ترامب" التجارية داخل مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين، خاصة من الأعضاء القادمين من مقاطعات زراعية، بسبب ما تلقته اقتصاداتهم المحلية من ضربة صينية، إثر زيادة الرسوم على صادراتهم من جانب الصين، ولهذا اجتمع بهم نائب الرئيس "مايك بنس" لحثهم على الاصطفاف خلف البيت الأبيض وعدم مُعارضته من أجل المصلحة العامة طويلة الأمد.
وإلى جانب ذلك، صرح الرئيس ترامب بأنه يخطط لتقديم نحو 15 مليار دولار من المساعدات للمزارعين الأمريكيين الذين قد تكون منتجاتهم مستهدفة بالتعريفات الجمركية الصينية في إطار الحرب التجارية معها.
وإذا كانت هذه أسرع الآثار وأكثرها مباشرة إلا أنها لا تشمل كافة المشكلات التي قد تسببها الحرب التجارية للاقتصاد الأمريكي، خاصة خلال العام المقبل (عام الانتخابات)؛ إذ تفيد بعض الدراسات بأن الناتج الأمريكي في حال تصاعد حرب التجارة مع الصين قد ينخفض بنحو 0.3% في العام المقبل (مقابل انخفاضه 0.8% في الصين) ،وهذا من معدل نمو لا يبلغ سوى ما يزيد عن 2.5% بقليل، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى انخفاض الأجور وفقدان نحو 162 ألف وظيفة بدوام كامل؛ إذ كانت الصادرات من السلع والخدمات للصين -وفقا لتقرير لوزارة التجارة الأمريكية- تدعم فرص عمل في الولايات المتحدة تبلغ 911 ألف وظيفة في عام 2015 (حينما كانت الصادرات أقل) وهو آخر عام تتوفر عنه بيانات.
وربما يكون أفضل تلخيص للموقف هو ما صرح به "ديفيد بيتريوس" مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية السابق لشبكة سي إن إن، حيث ذكر أن الميزة التفاوضية الأمريكية على الصين في المحادثات التجارية لن تدوم إلى الأبد؛ حيث تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ هائل في الأمد القصير بسبب حاجة الاقتصاد الصيني لتصريف منتجاته في السوق الأمريكية، لكن مع اقتراب الانتخابات الأمريكية سيكون الرئيس أمام ضغط هائل إذا أسفرت الحرب التجارية عن تباطؤ النمو وارتفاع معدلات البطالة، الأمر الذي سيجعله يقدم تنازلات للخروج من هذا المأزق في سبيل إعادة انتخابه.
أضف إلى هذا أنه لو تصاعدت الحرب التجارية واتجه الرئيس الأمريكي فعلا لفرض رسوم جمركية مرتفعة على كافة الصادرات الصينية لبلاده، فهذا سيشمل كافة سلع الاستهلاك الجماهيري كالملابس والأحذية ولعب الأطفال والمفروشات والأثاث وغيرها، مما سيرفع معدل التضخم وربما يثير حنق المستهلك الأمريكي ويؤثر على موقفه التصويتي.
ناهيك عن أن ارتفاع معدل التضخم قد يحرم الرئيس من موافقة الاحتياطي الفيدرالي على خفض سعر الفائدة لتنشيط الاقتصاد كما يأمل، فوفقا للهدف الرئيسي لنظام الاحتياطي الفيدرالي (بنك الولايات المتحدة المركزي) يرتبط سعر الفائدة بشكل واضح ليس فقط بالأداء الاقتصادي ولكن أيضا، وهو ربما الأكثر أهمية بمعدل التضخم، فارتفاع معدل التضخم إن لم يدفع نحو رفع سعر الفائدة، فهو على الأقل سيجعل "المركزي" يحجم عن تخفيضه.
وعلى الرغم من كل هذا فليس من الغريب أن يعود الرئيس الذي بدا واثقا في قدرته على الانتصار في حرب التجارة للقول إن المحادثات التجارية مع الصين لم تنهر، ووصف حرب التعريفات الجمركية الأمريكية الصينية المتزايدة بأنها "مشاحنات صغيرة"!!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة