الوثيقة النبوية ظلت نافذة خلال حكم الراشدين والأمويين والعباسيين، وأحياناً كانت تضاف إليها وثائق أخرى
من الوثائق المجهولة من تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية وثيقة عهد وأمان، منحها النبي العربي محمد عليه الصلاة والسلام إلى بطريرك كنيسة المشرق الآشورية، المعروفة سابقاً بالكنيسة (النسطورية)، وهي من أقدم كنائس العالم التي تأسست في بداية القرن الأول الميلادي على يد رسل عيسى ابن مريم عليه السلام، في شمال العراق، وانتشرت من هناك وصار لها أتباع وأبرشيات في مناطق متعددة في سواحل الخليج العربي وعُمان، وأتباع من بعض القبائل العربية في مدن الجزيرة العربية واليمن، وكان مقر البطريركية في بلدة المدائن العراقية (سلمان باك حالياً)، كما كان لبطريركها مقام خاص عند الخلفاء المسلمين في مراحل تاريخية مختلفة، كما أسهم رجالها في الحضارة العربية الإسلامية في مجالات الطب والفلك والترجمة.
الوثيقة النبوية ظلت نافذة خلال حكم الراشدين والأمويين والعباسيين وأحياناً كانت تضاف إليها وثائق أخرى تستجيب للمستجدات، ولعل «وثيقة الأخوة الإنسانية» التي صدرت في أبوظبي قبل شهور -من قبل الأزهر والفاتيكان- إضافة عصرية للوثيقة الأصل مع تغير الظروف والأحوال
وقد تقلص نفوذها وأعداد أتباعها مع نهاية الخلافة العباسية، إثر تراجع نفوذ العرب في الحكم، وفي مرحلة اجتياح المغول مناطق الهلال الخصيب الحضارية وصعود قبائل التركو-المغولية.
وانحصر وجود هذه الكنيسة في شمال العراق (موطنها الأصلي) وبعض المناطق في إيران وسوريا ولبنان، وقدرت أعداد أتباعها بنحو نصف مليون شخص، قبل اجتياح «الدواعش» الإرهابيين مناطق في العراق وسوريا.
وتذكر كتب التاريخ ووثائق دينية أن مطران هذه الكنيسة كان يلقب بـ(مطران العرب)، بسبب انتشارها في المناطق العربية قبل الإسلام، ووجود أتباع لها بين القبائل العربية، خاصة في أطراف جزيرة العرب، ويذكر مؤرخون أن أمير نجران كان من أتباعها، وهو الذي توسط عند الرسول صلى الله عليه وسلم وقدم البطريرك (إيشوعيان الجدالي الثاني) للرسول عليه الصلاة والسلام، ومنحه الوثيقة المذكورة، التي عرفت فيما بعد بـ«عهدة نصارى نجران».
ومن أبرز رهبان هذه الكنيسة الآشورية الراهب (بحيرا)، ويعني في اللغة الآشورية السريانية (المتنوّر) أو (العارف بعلم المستقبل)، الذي التقاه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو صبي أثناء مرافقته عمه أبا طالب أثناء رحلته التجارية إلى الشام، وقد أثارت شخصية محمد صلى الله عليه وسلم إعجاب ودهشة هذا الراهب، الذي بدوره أوصى عم الرسول (أبوطالب) بالتيقظ وحماية الصبي من العدوان «لأنه سيكون له شأن عظيم في المستقبل».
وتعتبر هذه الكنيسة كنيسة مستقلة، وغير مرتبطة بغيرها من الكنائس العالمية، وهي أقدم كنيسة في التاريخ، ولها معتقدات تقترب من مفاهيم إسلامية عن المسيحية. وقدم أتباعها مساعدات جمة إلى العرب أثناء الفتوحات الإسلامية، خاصة في معركة القادسية التي اندحر الفرس فيها، وتخلص أبناء هذه الكنيسة من الظلم الفارسي عليهم طيلة قرون طويلة.
وتشير الوثيقة أو العهدة (وثيقة عهد وأمان) -التي منحها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إلى نصارى «الأمة الآشورية»- إلى واجبات والتزامات المسلمين تجاه الآشوريين وكنيستهم، والضمانات والحقوق الممنوحة لهم في ممارسة شعائرهم الدينية، كما شملت تبياناً لمجموعة من واجبات والتزامات النصارى حيال الإسلام والمسلمين في أزمنة الحرب والسلم.
وقد قام بكتابتها معاوية بن أبي سفيان، وختمت بختم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقدمها إلى البطريرك، كما قام بإهدائه (خنجره)، حسب بعض المصادر التاريخية، تعبيراً عن التفاهم العميق الذي ساد اللقاء.
حضر هذا اللقاء، الذي استمر يومين، وعقد في المدينة المنورة في يوم الإثنين الأخير من الشهر الرابع لعام 630 ميلادية، عدد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، من بينهم أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، كما حضره قادة وشخصيات مسلمة أخرى.
وتتذكر المصادر الآشورية أن الوثيقة ترجمت إلى الآشورية والفرنسية والفارسية والإنجليزية خلال القرون التالية، وحفظت النسخة الأصلية في خزائن المقر البطريركي في المدائن، إلا أن السلطان سليم العثماني في الربع الأول من القرن السادس عشر طلب حفظها في القسطنطينية، في حين تشير مصادر آشورية أخرى إلى أن أصل الوثيقة ظل محفوظاً لقرون طويلة مع بطاركة كنيسة المشرق حتى منتصف القرن التاسع عشر، حينما قامت قبائل كردية في شمال العراق باجتياح المناطق الآشورية وتدميرها ونهب خزائنها الدينية والتراثية، بما فيها الوثيقة المذكورة، وقد تكرر هذا التدمير والنهب مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، خاصة إثر تحالف عشائر كردية مع السلطة العثمانية، لكن من المرجح أن هذه الوثيقة التاريخية استحوذت عليها السلطات العثمانية وحفظتها في أحد متاحفها في إسطنبول.
ويذكر أحد المصادر -نقلاً عن كتاب باللغة الإنجليزية صدر في لندن عام 1920، والمعنون «تقاليد الكنيسة الآشورية، واغتيال المطران مار شمعون»، وكتبته امرأة من نفس عائلة المطران القتيل- أن بعض ملالي الأكراد البارزين في جنوب شرقي تركيا كانوا يحضرون إلى ديوان البطريرك، ويطلعون على الوثيقة النبوية، وينقلون ما ورد فيها إلى أتباعهم وأفراد عشائرهم الكردية، لكي يلتزموا بمضامينها، لكن ذلك كان يثير حقد وهيجان زعماء آخرين متطرفين ضد الآشوريين، وفي هذا الإطار تم تشريد أهل بعض القرى الآشورية، ونهب ممتلكاتهم، واغتيال البطريرك في عام 1918.
الوثيقة النبوية ظلت نافذة خلال حكم الراشدين والأمويين والعباسيين وأحياناً كانت تضاف إليها وثائق أخرى تستجيب للمستجدات، ولعل «وثيقة الأخوة الإنسانية» التي صدرت في أبوظبي قبل شهور -من قبل الأزهر والفاتيكان- إضافة عصرية للوثيقة الأصل مع تغير الظروف والأحوال.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة